2.25.2020

الحَرَاكُ الَّّذِي عَرَفْتُهُ...

الحَرَاكُ الَّّذِي عَرَفْتُهُ...


تاريخ (22 فبراير 2019م)؛ كان يومًا مِن أعظم الأيّام الّتي شَهِدَتها الجزائر عبر تاريخها الحافل بالأحداث، قد سبقته أيّامٌ وأشهرٌ سُجّلت فيها احتجاجاتٌ فئويّة بمستوياتٍ غير معهودة، وهُتافاتٌ سياسيّةٌ مُنظّمَةٌ ضجّت بها ملاعب كرة القدم -لا سيما ملعب بولوغين أين كانت أغاني أنصار إتّحاد العاصمة شديدة التّركيز على مواجهة العصابة وعهدتها الخامسة-، وبعض التحرّكات الجهويّة التي أَسقطت الصّور العملاقة للرّئيس المخلوع -لأوّل مرّة- وجَهرت بوقفتها ضدّ ترشّحه لعهدةٍ خامسة؛ كلّ ذلك كان بمثابة الشّراراتِ لنارٍ ستحْرقُ قصر العصابة بعد ذلك.
فما بين أحداثِ العاصمة، وورقلة، والشّلف، وبرج بوعريريج، وخنشلة، وخرّاطة، وعنّابة؛ كانت التّبشيرات بجديّة العزم على خروج الأمّة إلى الشّارع في اليوم الموعود (22 فبراير)؛ وبه وعليه، تُردّ تلك المزاعم الجهويّة المَغرورة الّتي تحاول أن تصنع لنفسها تاريخًا تختصّ به دون الأمّة إذْ تقول: "مِن ولايتي انطلق الحراك قبل الجميع"!؛ بل الحراك هو ذلك الموافق للثّاني والعشرين مِن فبراير، الّذي خَرج في جمعته الملايين في مختلف ربوع الجزائر وشتّى بقاعها، أمّا ما كان قبله من احتجاجات؛ فقد كانت عبارة عن مناوراتِ إحماءٍ وحركاتِ تحسيسٍ لعموم الشّعب الجزائريّ بضرورة الالتحام في مسيرة التّغيير؛ بعد جرأة النّظام عى تقديم رجلٍ مُقعدٍ مُغيَّبٍ في صورةٍ مُستفِزّةٍ تهزّ الوجدان هزّا، مرشَّحًا لعهدةٍ خامسةٍ في الانتخابات الرّئاسية الّتي كان مقرّرًا تنظيمُها في تاريخ (18 أبريل 2019م)؛ وبأيّ طريقة؟ إطارٌ يُظهرُ صورةَ رئيسٍ قد رُسمَت على لوحة (الكادر)، تُرفع على منصّة القاعة البيضاوية بين المئات، ليتمّ الرّمْزُ بها على ترشُّحِ بوتفليقة للرّئاسيّات!
ثمّ جاء اليوم المشهود الذي خرج فيه الشّعب الجزائري عن بكرة أبيه، معلنًا قرارَه حاملاً مصيرَه بين يديه..، بعد سنواتٍ مِن معاناة القهر والحرمان عاثَت فيها عصابة بوتفليقة في الأرض فسادا، رغم ما توفّر للجزائر على امتداد تلك الفترة مِن أسباب الإقلاع التّنموي والنّهوض الاقتصادي ما لم يتحقّق لها مِن قبل؛ على رأسها تلك المئات مِن ملايير الدّولارات الّتي امتلأت بها البنوك الجزائريّة مِن تصديرِ خيراتٍ باطنيّة بأسعارٍ قياسية!
وقف الشّعب الجزائريّ وقفةَ رجلٍ واحدٍ في الوقت الموعود، رغم ما أعدّته السّلطة -يومها- مِن قوى أمنيّةٍ مكثّفةٍ مزوّدةٍ بأحدث وسائل مكافحة الشّغب، انتشرت عند مداخل السّاحات العامّة؛ لا يكاد يراها أحدٌ إلاّ وشعر في نفسه تردّدًا في التّظاهر بعد عزمٍ عليه، جرّاء ما كان يبعث به ذلك الانتشار الأمني الواسع مِن رسائل التّهديد والتّخويف للمارّة؛ فضلاً عمّا سبق الموعد مِن تشكيكاتٍ في نوايا دعاة الحراك، تمّ التّسويق لها عبر مواقع التّواصل الإجتماعي وبعض وسائل الإعلام، كما سار على خطّها بعض خطباء المنابر باسم الدّين -للأسف-!
خرجتُ في الجمعة الأولى لشهودِ الخطبة والصّلاة في مسجد الرّحمة -بالجزائر الوسطى وسط العاصمة-، بنيّةِ الخروج بعد ذلك في للمظاهرةِ مباشرة، وأنا في الطّريق إلى المسجد، لم أرَ -حينها- شيئًا مشعِرًا بخروج النّاس بعد صلاة الجمعة، صُدمتُ مِن حركةٍ عاديّة تقول بلسان حالها: أبشري بطولِ سلامةٍ يا عصابة بوتفليقة! أملٌ في انفراجٍ كاد ينقطع عن نفسي لولا كلمةٌ سمعتُها في درس الجمعة كان ألقاها شيخنا الفاضل عبد الحميد عوير -حفظه الله-؛ أرسل مِن خلالها رسائلَ ذكيّةٍ طمئنت الحضور الكبير للنّاس في المسجد -على غير العادة-، مبيّنًا حقَّ التّظاهر لمواجهة الظّلم ووضع حدٍّ للفساد مِن منطلقِ فقه الشّريعة والواقع.
انْكسرَ حاجز الخوف وتدفّق النّاس مِن كلّ حَدَبٍ وصَوْب؛ فكان الحراك السّلميّ الموحَّد برايته الوطنيّة، الجامع لكلّ التوجّهات الفكرية والإيديولجيات السّياسية، تشرّفتُ بالالتحاق به في ساعته الأولى عند مبنى البرلمان الّذي كان المركز الّذي تقاطرت نحوه جموع العاصمة في اليوم الأوّل -قبل أن يتحوّل إلى البريد المركزي في الجُمعِ اللاّحقة-؛ وقد قلتُ يومها عبر خاطرةٍ رقمتُها بروح الحريّة: "سَجّلْ يا تاريخ (22/02/2019م): مسيرةٌ احتجاجيّةٌ شعبيّةٌ سلميّةٌ خالفت كلَّ التوقّعات المُريبة وأَرغمَت كلّ التّهديدات المخيفة؛ لم يُخرجْنا إليها إلاّ حرصٌ على بلادٍ تبخّرت آمالها، وعلى كرامةٍ ضاع عنوانُها؛ وتفكيرٌ في أبناءٍ قد أحسسْنا بثقلِ المسؤوليّة اتجاههم ونحن نرى أفقًا لا يبشِّرُ بخير...".
 هبّةٌ شعبيّة لم يَحسبْ لها النّظام حسابها بحكم التّجربة مع المحاولات السّابقة لمثلها، الّتي  مرّت كعيّناتِ تجاربٍ فاشلة، حيث لم تنجح فيها دعايةٌ ولم يتحقّق لها حَشدٌ؛ بخلاف هذه المرّة، إذْ امتلأت ساحاتُ المدن وشوارعُ القرى بالآلاف المؤلّفة مِن المحتجّين عبر ولايات كلّ البلاد، ثمّ بلغتِ الأعداد ملايين المشاركيين ابتداءً مِن الجمعة الثّانية (1 مارس)، بعد التحاق الأعداد الهائلة الّتي لم غابت في اليوم الأوّل لمانعِ الخوف أو التردّد، فضلاً عن إقدامِ الطّلبة على تنظيم حراكٍ خاصٍّ بهم كلّ يوم ثلاثاء؛ ممّا أَربكَ النّظام وأخلطَ عليه أوراقه، فارتكب غباءً اعتبرتُه -في تقديري- المنعرجَ الّذي كان نعمةً على الحراك، حيث زاد أهلَه عزمًا على استمرارِه وحزمًا في مطالبِه؛ ألا وهو الخطوة الجريئة الّتي خالفت أغلب التوقّعات: إيداع ملفّ ترشّح عبد العزيز بوتفليقة بصفةٍ رسميّة عند المجلس الدّستوري بواسطة أحد ممثّليه! ولو أنّ النّظام تقَهقَرَ -حينها- ببعض الخطواتِ فعدلَ عن ذلك التّرشيح الأحمق، لربّما خارَت قوّة الحراك وضعفت عزيمته عن الاستمرار، وهو يرى الرّجل الّذي أخرج النّاسَ ثائرين قد انتهت رئاستُه وسقط حكمُه..، لكنّه رغم الغضب الشّعبي مِن مشروع العهدة الخامسة ترشّح! ليقضي الله أمرًا كان مفعولا..؛ وإنّني كنتُ لخبرِ ترشّحه مِن السّعداء...
أمّا المطالب فقد كانت واقعيّة الإعلان منطقيّة المنطلق؛ عُبّر عنها بشتّى الوسائل والأساليب، وكان مدارُها على أربعة نقاط أساسيّة:
أوّلاً: رَفضُ ترشّح عبد العزيز بوتفليقة لعهدةٍ خامسةٍ لرئاسيّاتٍ يستمرّ عبرها حكم البلاد باسمه مِن طرف عصابةٍ أفسدت بَرَّ البلادِ وبحرَها؛ كما تمّ رفض فكرة تمديد عهدته الرّابعة بضعةَ أشهرٍ ثمّ الاستقالة، الّتي تمّ طرحها تحايلاً على الحراك.
ثانيًا: ذَهابُ رموزِ النّظام في كلّ مؤسّساتِه، والانتقالُ بالجزائر إلى عهدٍ جديدٍ عبر انتخاباتٍ حرّةٍ ونزيهة تختار عبرَها الأمّة رؤساءَها وممثّليها.
ثالثاً: محاسبة العصابة الحاكمة وملاحقة المشاركين لها مِن العملاء والفاسدين؛ ومحاكمةُ الجميع على ما اقترفوه في حقِّ البلاد والعباد مِن نَهبٍ وخرابٍ وخيانة.
رابعًا: دعوةُ مؤسّسةِ الجيشِ وقائدِ الأركان السّابق -رحمه الله- إلى الوقوفِ في صفّ الشّعب لتحقيق أهدافِه وتلبيّةِ مطالبه، وحمايتِه مِن بطشِ وإرهاب الأجهزة الأمنية المواليّة للنّظام البائد.
مطالبٌ عُبّر عنها عبر مختلف الشّعارات واللاّفتات؛ الّتي أذكر منها: "جيبو البياري وزيدو الصّاعقة، مكانش الخامسة يا بوتفليقة"، "لا نريد لا نريد، بوتفليقة والسّعيد"، "نحّيو العصابة نولّوا لباس"،
ورغم قوّة التحدّي وشدّة الصّمود الشّعبي في وجه بوتفليقة وعصابتِه، لم تُسجَّلْ طيلةَ أشهر الحراك الأولى تجاوزًا أمنيًّا في حقّ المحتجّين، إلاّ ما شذّ بعد احتكاكٍ مباشرٍ بين بعض الشّباب ورجال الأمن، لا سيّما ذلك الاحتكاك الّذي وقع يوم (1 مارس) -في الجمعة الثّانية- عند قصر الشّعب، فتسبّب في ازدحام شديدٍ راح ضحيّته الأخ حسين بن خدّة، فسقط وكان غير بعيدٍ مِن مكانِ وجودي -يومها- وقد كنتُ ممّن رآه والإسعافات تحاول إنقاذه -رحمه الله-.
سلميّةٌ صنعها الشّعب الجزائريّ بطريقةٍ نالت إعجاب الرّأي العام الدّولي على المستوى السّياسي والإعلامي، لكن يجب أنْ يُذكر في هذا الجانب فضل الجيش بمؤسّسته وقائد أركانِه -بعد فضل الله سبحانه- الّذي تعهّد بحمايةِ المتظاهرين فالتزم ووفّى، رغم تلك المحاولات اليائسة مِن طرفِ العصابة الّتي كانت تسعى كلّ مرّةٍ إلى إحداث أسباب التوتّر والاصطدام بشتّى الأساليب والحيّل، حتّى تُنقذ جلدها وتمدّد بقاءها عبر الدّخول بالبلد في حالةِ طوارئ..؛ إنّه حَراكُ البذْلةِ الخضراء الّذي قاده بعض رجال الجيش -على رأسهم القايد صالح رحمه الله- في صمتٍ وهدوءٍ منذ سنوات، قبل أنْ يُتوَّجَ بتغيّرٍ انقلابيٍّ في عمقِ المؤسّسةِ العسكريَة وعقيدتِها، أعادَ الجيشَ إلى الحاضنةِ النوفمبرية في أصالتها ووطنيّتها؛ بشهادةِ أشرافها الذين قبعوا في سجون (كابرانات) فرنسا والجنرال توفيق دهرًا، فضلاً عن تصفيةِ وتعذيب بعضهم وإحالة آخرين إلى التقاعد في أَوجِّ عَطائِهم، وما كان هذا ليكون لولا سعي رجال الجيش الصّادقين في تصفية المؤسّسة العسكرية مِن الخَونة وعبيد فرنسا.
ولنْ ننسى الكلمة التّاريخيّة للفريق أحمد قايد صالح  خلال زيارته الميدانية للنّاحية العسكرية الرّابعة بورقلة يوم (26/03/2019م)؛ وممّا جاء في كلمته -رحمه الله-: "إنّ الوضع في بلادنا يظلّ حاليًا يتميّز بمسيراتٍ شعبيّة سلميّة، تُنظَّم عبر كامل التّراب الوطني وتُطالب بتغييراتٍ سياسيّة، ورغم أنّ هذه المسيرات قد اتّسمت إلى غاية الآن بطابعها السّلمي والحضاري، مؤكّدةً بذلك المستوى الرّفيع للشّعب الجزائريّ ووعيه ونضجه، الّذي حافظ على السّمعة الطيبة الّتي تحظى بها الجزائر بين الأمم...، وفي هذا الإطار سبق لي في العديد من المرّات أن تعهّدت أمام الله والوطن والشّعب، ولنْ أَملّ أبدًا مِن التّذكير بذلك والتّأكيد على أنّ الجيش الوطني الشّعبي، بصفته جيش عصري ومتطوّر قادر على أداء مهامه بكلّ احترافيّة، وبصفته كذلك الضّامن والحافظ للاستقلال الوطني والسّاهر على الدّفاع عن السّيادة الوطنيّة والوحدة التّرابية وحماية الشّعب مِن كلّ مكروه ومِن أيّ خطرٍ مُحدق، قلتُ أنّ الجيش الوطنيّ الشّعبي سيظلّ وفيًّا لتعهّداته والتزاماته ولن يسمح أبدًا لأيٍّ كان بأنْ يهدم ما بناه الشّعب الجزائري...، وفي هذا السّياق يتعيّن بل يجب تبنّي حلّ يكفل الخروج مِن الأزمة، ويستجيب للمطالب المشروعة للشّعب الجزائريّ، وهو الحلّ الذي يضمن احترام أحكام الدستور واستمراريّة سيادة الدّولة، حلّ مِن شأنه تحقيق توافق رؤى الجميع ويكون مقبولاً مِن كافة الأطراف، وهو الحلّ المنصوص عليه في الدّستور في مادّته 102".
أدركَت حاشية بوتفليقة -على رأسها أخوه السّعيد- حقيقة انحياز الجيش إلى الشّعب في مطالبه، وبالتّالي اشتداد الحصار عليها وحتميّة نهايتها إنْ لم تتحرّك لحماية إمبراطوريّتها؛ هنا خطّط الحاكم الفعليّ والمستولي على خاتم الرّئاسة (السّعيد بوتفليقة) لقلب الطّاولة لصالحه بالانقلاب على حامي الشّعب وحراكه، كانت الخطّة تُعتبر آخر ورقة بيد المجرمين -بعد ورقتَيْ إقالة حكومة أويحيى والعدول عن الترشّح للخامسة بتمديد الرّابعة- تمّ حبْكها عبر اجتماعاتٍ سريّة دارت بين زعيم العصابة (السّعيد)، والفريق المتقاعد محمّد مدين (توفيق)، ورئيس المخابرات -وقتها- عثمان طرطاق -وقد تمّ كشفها للرّأي العام بعد ذلك-، والهدف: تنحية قائد الأركان السّابق القايد صالح..؛ سارت الخطّة كما رُسمت، فكادت الجماعة أن تجني ثمارها لولا لطف الله -سبحانه- بالشّعب الجزائريّ ثمّ فطنة رجال الجيش؛ حيث كانت الورقة الشّهيرة الّتي أُعدّت باسم الرّئاسة وخُتمت بخاتمها في طريقها إلى مبنى التّلفزيون الجزائريّ قبيل نشرة الثّامنة، حاملةً خبر تنحيّة قائد الأركان الرّاحل وموصيةً بتلخيص القرار ضمن شريط الخبر العاجل بجملة: "إقالة القايد صالح وتعيين الجنرال سعيد باي خلفًا له"! فتمّ إفشال المؤامرة الّتي كادت تَقلب الموازين بعد قطع الطّريق عليها عند المبنى، لتمرّ النّشرة الإخبارية عاديّة مختتمَةً بفقرةٍ ثقافيّة تضمّنت صورَ رقصةٍ مِن الجنوب الجزائريّ...
ثمّ جاء التّاريخ الاستثنائيّ  (02/04/2019م) الّذي حُسمت فيه المعركة بين العصابة والحَراك، بعد الاجتماع الكبير الّذي عقده الفريق أحمد قايد صالح في مقرّ قيادة الأركان مع قادة الجيش والنّواحي العسكريّة جميعًا، بالإضافة إلى قادة الدّرك والقوّات البريّة والجويّة والبحريّة، مع انضمام رئيس الحرس الجمهوريّ علي بن علي إلى الاجتماع؛ أين ألقى فيه قائد الأركان السّابق -رحمه الله- كلمته الشّديدة اللّهجة الّتي طالب فيها بتطبيق المادّة 102 مِن الدّستور -مرفَقةً بتطبيق المادّتين 7 و8- الّتي تنصّ على استحالة ممارسة رئيس الجمهوريّة لمهامِه بعد ثبوت المانع؛ فإذا ببيان استقالة الرّئيس عبد العزيز بوتفليقة بعد فترةٍ قصيرة يُذاع عبر القنوات، ليُعلَن ضمنيًّا نهاية إمبراطوريّة تحمّل الشّعب الجزائريّ تحت حكمِها شرورَ فساد التّسيير وصنوف مرارة العيش على جميع المستويات.
تولّى رئيس مجلس الأمّة منصب رئاسة الدّولة -كما يقتضيه الدّستور- بعد إعلانِ حالة الشّغور، كان دوره الأساسيّ تنظيم انتخاباتٍ رئاسيّةٍ بعد تسعين يومًا مِن استقالة الرّئيس؛ ولمّا كانت الظّروف الوقتيّة قد ضاقت على الاستعداد لها، والضّمانات الإداريّة قد غابت بحكمِ الإشرافِ عليها مِن طرف نور الدّين بدوي وحكومته -أنذاك-؛ استمرّ الحَراك ضاغطًا على الدّولة لتعدِل عن تنظيم تلك الانتخابات الّتي كان مُزمَعًا تنظيمها في اليوم الموافق (04/05/2019م)؛ ثمّ جاء الخبر السّار لنا جميعا قُبيْل تاريخ تنظيم الانتخابات بأيّام، بعدم تنظيمِها لأسبابٍ دستوريّةٍ ذُكرَت وقتها، وجوهرُها كان الاستجابة لمطلب الحَراك.
أدركَت السّلطة -بعد ذلك- ضرورة إعادة النّظر في سياسة تنظيم الانتخابات بما يُطمئِن الجميع ويقطع أسباب العزوف عنها؛ فبدأت تُغيِّر جذريّا سياسة الانتخابات تنظيمًا وإشرافًا بما يغرس الثّقة في صفوف الشّعب الجزائريّ، وفي المقابل بدأ الحَراك في الانحراف عن مطالبِه وخطِّه الّذي انطلق عليه عند نقطتِه الأولى! في الوقتِ الّذي كان يُتوقّع منه تناغمٌ في مواقفه مع خطوات الدّولة بعد قرار الإلغاء للانتخابات ثمّ الإجراءات المُعدِّلة لتنظيمها، والّتي كانت متمحورةً في سحبِ تنظيمها والإشراف عليها مِن الحكومة وداخليّتها، وجَعلِها بيد السّلطة المستقلّة للانتخابات.
وهكذا تحقّقت مطالب الشّعب الكبرى على يد المؤسّسة العسكريّة، بعد أنّ وفّر لها الحَراك تغطيّةً كبيرة تدفع عنها شبهة الانقلاب في عيون العالَم؛ ثمّ شُرع في محاسبة رؤوس العصابة وأذنابِها تحت رعايةِ المؤسّسة الوفيّة للشّعب الجزائريّ، ولازلنا نسمع بالتّحقيقات والمحاسبات تُطارد النّاهبين لخيرات الأمّة وتجرّهم إلى السّجون؛ فصدقَ مَن اعتبر يوم الثّاني والعشرين مِن فبراير يومَ التحامٍ بين الشّعب وجيشِه، والحمد لله على فضلِه ومنِّه وكرمِه.
ثمّ أصبحنا نرى حَراكًا -أو تحراكًا كما يصفه بعض الظّرفاء- متنكّرًا للجميل الّذي بذلته المؤسّسة العسكريّة لمّا أضحى القايد صالح -رحمه الله- هدفًا رئيسًا ترميه الهتافات! وشعاراتٍ غير عقلانيّةٍ تعلن مقاطعة الانتخابات بمبرِّراتٍ تشترط شروطَ انهيار الدّولة بمؤسّساتِها! وراياتٍ جهويّة تعكس مرض التعصّب المفرِّق للجماعة باسم التّعبير عن الهويّة! وتأويلاتٍ مشكِّكةٍ في قراراتِ السّلطة الجديدة رغم خطواتها الإيجابيّة وإجراءاتها الطيّبة! ثمّ تفاهاتٍ مُطالبةٍ بتنحيّة رئيس الجمهوريّة عبد المجيد تبّون بعد انتخابِه مِن طرف شريحةٍ واسعة مِن الشّعب الجزائريّ!
شهدتُ هذا الانحراف وسمعتُ أصواتَه المُنكرة، فكانت الجمعة العشرون مِن الحراك هي آخر جمعةٍ لي، وقد كانت موافقةً لليوم الخامس مِن يوليو، سبقني إلى الانسحاب الكثير مِن العقلاء والفضلاء مِن إخواني لنفس الأسباب وبنفس النيّات؛ غادرتُ ساحتي بصورةٍ مؤلمةٍ لم تفارق ذاكرتي كانت ملخّصةً لكلّ شيء؛ تُرفع في ذكرى الاستقلال رايةٌ غير راية التّحرير على أعلى أعمدةِ شارع عبد الكريم خطّابي -الملتصق بساحة أودان-، فيتسلّق شرطيٌّ بطريقةٍ بطوليّة لينزعها انزاعًا كان له معنىً إيجابيًّا كبيرًا في نفوس الكثيرين مثلي -رغم أنوف من اعتبروا الموقف استفزازيًّا-، فتناولتْه الأيدي  بالرّشق عبر شتّى الوسائل، والألسن بالشّتم عبر مختلف القبائح! رغم ذلك انتزعَها فألقاها على وجوه أصحابها..؛ كنتُ قريبًا مِن الحادثةِ في وسط القومِ أين طغتْ راياتُهم الشّبيهة بالمُلقاة في شذوذِها عن رايتِنا الجزائريّة، انفجرتُ غاضبًا ومُنكِرًا بأعلى صوتي: "لم نخرجْ مِن أجلِ هذا! ما هذا الّذي تصنعون؟ أين عقولكم؟!"...
لم أشارك في حَراك يوم الاستقلال إلاّ لشرف الذّكرى الّتي أردتُ خَتْمَ سلسلتي بها، وإلاّ فإنّ التّفكير في الانسحاب كان قد سبق الذّكرى...
لقد استنفدَ الحَراك مبرّرات استمرارِه بانعِدام الأسباب الّتي أَخرجَت الشّعبَ الجزائريّ إلى الشّارع، بعد أنْ تحقّقت أهدافُه ومطالبُه الأساسيّة المتمثّلة في: إبطال العهدة الخامسة، إيقاف تمديد الرّابعة، إبعاد حاشيّة بوتفليقة عن إدارة البلاد، محاسبة رؤوس العصابة وأذنابها، واستبعاد بدوي وحكومته مِن الإشراف على الانتخابات؛ أمّا المطالب الأخرى، فلا يُمكن تَصوُّر تحقيقها عبر الشّارع؛ بل إنّ مرحلتَها الطبيعية المناسبة لها تكون بعد انتخاباتٍ رئاسيّةٍ يُتوّج مِن خلالها رئيس جمهوريةٍ منتخبٍ يُشرف على تلبيّتها تحت متابعة الجميع ومراقبتِهم؛ فليس كلّ المطالب يتمّ طرحها عبر الشّارع! وإنّما الأمر بمثابة البيتِ الهشّ يمرّ المشروع على أرضه بمرحلتين: إزالةُ ما تقادم بالهدم، ثمّ إنشاءُ ما تجدّد بالبناء، واستمرارُ الحَراك على المسار التّصاعديّ في منحناه، قد أعقبته بعد وصولِه إلى الذّروة حالةٌ تنازليّةٌ سلبيّة تقترب مِن الحالة الصّفرية كلّ يوم..؛ وهنا مكمنُ الخطر ومبدأ الصّدام -لا قدّر الله-!
وقد نُظِّمَت الانتخابات؛ فاعترَضَ عليها مَن اعترَض وانتخب مَن انتخَب -وإنّني كنتُ لخيارِ الانتخاب مِن المنتصرين-، وليس اعتراض المعترضين حُجّةٌ على انتخابِ المنتخبين؛ فلا يملك المتخلّف عن المشاركة في الرّئاسيات إبطالَ حقِّ إخوانِه مِن خلال مطالبتِه الغريبة الجريئة بإلغاء نتائج الانتخابات وتنحيّة الرّئيس المنتخَب! وإنّنا لَنرى صِدق الرّئيس عبد المجيد تبّون في التزام الوفاء بوعودِه، وجديّتِه في سدادِ قراراتِه، وحِكمتِه في تكاملِ اختياراتِه، قد أُحيطَ برجالِ مؤسّسةٍ عسكريّةٍ تسير على عهدِ قائدها الرّاحل -رحمه الله- تحمي حَركَتَه كما حَمَت حَركَة الشّعب، وأُرفِقَ بطاقمٍ حكوميٍّ لديه مِن العزيمة على المضيّ نحو خير البلاد والعباد بما يبعث على التّفاؤل؛ هذا والرّجل لم تمضِ على انتصابِه رئيسًا للبلاد الثّلاثة أشهر! وإنّني لِمستقبل الجزائر مِن المتفائلين..
لقد أصبح عبد المجيد تبّون رئيسًا لجميع الجزائريّين بنصّ القانون مهما كانت نسبة مشاركة الهيئة النّاخبة، فمَن يُطالب -اليوم- بتنحيّتِه مِن المتخلّفين عن الانتخابات؛ فهو في حكم المعتدي على حقّ غيرِه مِن المنتخبين عليه، وهو خصمٌ لهؤلاء إلاّ أنْ يسلك سبيلَ أهل العقل والرّشاد؛ بل ندعو للرّجل بحسنِ الأداء وصلاح البطانة، وندعمه وننصره فيما يُحسِن، ونقوّمه وننتقده فيما يُسيء، وفي لاحق الانتخابات لكلٍّ الحقّ في إبداء خيار إبقائِه في منصبِه أو إقالتِه منه عبر الصّندوق، فإنْ غَيّرَ وسلك سنّةَ سابقِه كان علاجُه في مثلِ دوائِه دواءً.
لم يعُدْ الحَراك حراكَكم معاشر الإسلاميّين والوطنيّين، وإنْ كانت مكوّناتِه الغالبة نابعة مِن مَشربِكم، لقد أصبحتُم -للأسف- مجرّد وقودٍ للأقليّة العِلمانيّة المنبوذة! -قلتُ وأؤكّدُ قولي- لقد اشتدّ -اليوم- عود هؤلاء الأوغاد بجمهورٍ غفيرٍ يشذّون عن أصالته، تمكّنوا مِن التّأثير على اتّجاهاته وشعاراتِه ومطالبِه عبر قنواتِهم الإعلاميّة القويّة والمتنوّعة، لم ينغمسوا بين صفوفِه إلاّ بعد مطارداتٍ متكرّرةٍ ضدّهم في أوّل الأمر، ومحاولةٍ لتوجيه النّاس إلى حَراكِم في يوم آخر غير الجمعة! قبل تمكّنِهم مِن الانغماس وهم الّذين كان منهم مَن يرفع شعارات اللاّئكية واللاّفتات المناقضة لبيان أوّل نوفمبر؛ بل قد وُجد منهم مَن كان يُصفّر ضدّ الهتافات المناديّة بالدّولة الإسلاميّة! إلى أنْ تقدّموا فكانوا عند مقدّمة الحراك! فلا تكد ترى في الإعلام -لا سيما الغربيّ منه- إلاّ صورهم وراياتِهم وشعاراتِهم وهم يصرّحون رافعين المطالب بخلفية شعبية مِن ورائِهم، إيهامًا بأنّ صوتهم مِن صوت الشّعب! لا يطالبون بتوفير الشَروط وتهيئة الظروف لانتخابات نزيهة؛ وإنّما الدّخول بالبلد في مرحلةٍ انتقاليّةٍ برسمهم وعلى طريقتهم، وإلاّ فما بال كلمات الدّكتور أحمد بن محمّد الّتي كان يُرسلها كلّ جمعة عبر مكبّرات الصّوت، لم تحظَ بأيّ بثٍّ في قناةٍ من قنوات إعلامِهم؟! هلاّ قلّبتُم صفحات الماضي -هداكم الله- لتقرؤوا عن تحالف هؤلاء مع دولةٍ كانت في يدِ أقرانِهِم في الهوى، رغم الطّغيان وسياسة الحديدِ والنّار الّتي انتهجها قادة محاكم التّفتيش؟!
إنّهم لا يعرفون الشّارع إلاّ عند ضياع جنّتِهم؛ ولو وُعدوا -مرّة أخرى- عطاءً مِن الامتيازاتِ المعنويّة والماديّة على حساب الأمّة الأحقّ بها، فوالله لنْ تُحسّوا منهم مِن أحدٍ أو تَسمعوا لهم رِكْزا، ثمّ يكونون عليكم مِن المتمالئين!
بل أنظروا إلى ما كنّا نراه شذوذًا معزولاً في أوّل الحَراك، كيف أصبح اليوم يرفع عقيرَته مِن خلال الجهر بقضيّة إلغاء المادّة الثّانية مِن الدّستور! ومطلب المساواة بين الجنسين! ورفع راية المِثليين جنسّيًا في قلب السّاحات! إنّكم تتبرّعون بكثرتِكم لدعمِ مبادئ أعدائِكم وأنتم لا تشعرون...
ائتمِنوا عقولَكم إن خانتكُم قلوبُكم!
ألا إنّ حظوظَ أهوائِكم قد ارتسم تبنيّها في الدّولة الجديدة بما لم يتحقّق مِن قبل، فلا يستغبينَّكم شيطانٌ في صورة مَلَك! واحذروا أنْ تكونوا لنعمة الله مِن الكافرين ولمساعي الصّادقين مِن المُفسدين؛ وإنّني لأخشى أنْ نكون ممن بدّلوا نعمة الله فكفروا بها لما جاءهم ما عرفوا، فتُرفع عنا على أيدينا...
قال الله -عزّوجلّ- [[وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ، إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ، وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]].
وقال -سبحانه-: [[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ]].
أخوكم محمّد بن حسين حدّاد الجزائري
الأحد 29 جمادى الآخرة 1441هـ،
الموافق 2020.02.23م