10.29.2020

مشروع دستور 2020م... بين إيجابيّاتٍ ينبغي أنْ تُشكر وتحفّظاتٍ يجب أن تُذكر الجزء الثّالث (تحفّظات يجب أن تُذكر)

 

مشروع دستور 2020م...

بين إيجابيّاتٍ ينبغي أنْ تُشكر وتحفّظاتٍ يجب أن تُذكر

الجزء الثّالث (تحفّظات يجب أن تُذكر)



على الرّغم مِن تلك التّعديلات المهمّة الّتي طرأت على مشروع الدّستور والنّصوص الجديدة الجيّدة الّتي تضمّنها -وقد ذكرتُ جملةً منها ضِمن الجزء الثّاني مِن هذا المقال-، استجابةً لآلاف المقترحات الواردة على لجنة صياغة المشروع التّمهيدي لتعديل الدّستور؛ إلاّ أنّ ثمّةَ تحفّظاتٍ رأيتُ ضرورةَ تخصيصِ جزءٍ لها مِن أجلِ عرضِها وتسليط الضّوءِ عليها، قصد استِثنائِها مِن دائرة المواد الّتي عبّرت عن اطمئناني لها وقبولي بها؛ بعضها لا يفتقر إلى ضرورة تعديلٍ، ولكنْ إلى إضافةٍ تُكمّل فيها نقصًا غير مؤثِّر؛ وإنّما المرادُ ابتداءً تلك المواد المُبهمَةِ غير الواضحة الأبعاد، المُستدعية تفسيراتٍ أو تقييداتٍ تُوضّحها وتسدّ خللها، وتلك المواد المُستوجِبة صياغاتٍ تضبطُ معانيها وترسم آثارها.

فمِن تلك النّصوص المُفتقرة -في نظري- إلى ما يُكمّلُ نقصَها، أو يُوضّحُ مرماها، أو يسدّ خلَلها، أو يضبطُ معناها، أو يرسم أثرَها..، والّتي كان -في تقديري- مِن الضّروري والمهمّ شملَها بالتّعديل والتّصحيح -أيضًا-؛ أسجّل منها في هذا الجزء:

01/ عدم اكتمالِ الوصفِ للشّعبِ الجزائريِّ:

جاء في الفقرة الأولى مِن الصّفحة 4 ضمن الدّيباجة: "الشّعبُ الجزائريّ شعبٌ حرّ، ومُصمّمٌ على البقاءِ حرًّا".

لقد أضحت الحريّةُ مِن الكلماتِ المفتاحيّة التّي يُعرَفُ بها الشّعبُ الجزائريُّ بين الأمم في العصر الحديث، حتّى جعلتْه قدوةً لدى كلّ أمّةٍ تروم انْعتاقًا مِن قيود الاستبداد وتقصد تخلّصًا مِن أغلال الاستعمار؛ نظرًا للتّضحيّات الهائلة الّتي بذلها أكثرَ مِن قرنٍ في سبيل دفعِ المُعتدين على كرامتِه والتحرّر مِن المحتلّين لأرضِه؛ كما أنّ الدّين الإسلامي كان في الشّعب الجزائريّ ولا يزالُ، مِن الخصائصِ الفارقة الّتي صنعتْ له مجدًا خلّدَ وقفاتِه الإيمانيّة منذ الفتح الإسلاميّ ومرورًا بجِنانِ الأندلس وانتهاءً -بلا نهاية- عند ثورةِ التّحرير؛ حيث كان يمدّه بالرّوح المعنويّة الّتي كانت تُثبّته ليقف شامخًا مُحتسِبًا في وجه آلات الدّمار الغاشم.

ومنه؛ اقتضى ذلك التّزاوج بين الحريّة والإسلام المتميِّز في الشّخصيّة الجزائريّةِ عبر تاريخِها الطّويل، أنْ يُخصَّ بجمعٍ يأبى الانْفصال؛ فكان المرجوّ -كما وردَ ضِمن مقترحاتي المُرسلة إلى لجنة صياغة الدّستور- أنْ تُصاغ تلك العبارة على النّحو التّالي: "الشّعبُ الجزائريّ شعبٌ حرٌّ مُسلِم، ومُصمِّمٌ على البقاءِ حُرًّا مُسلمًا".

02/ تغييبُ دورِ الحركة الإصلاحيّة التّاريخي:

جاء في الفقرة الخامسة مِن الصّفحة 4 ضمن الدّيباجة: "لقد تجنّد الشّعب الجزائريّ وتوحّد في ظلّ الحركة الوطنيّة، ثمّ انضوى تحت لواء جبهة التّحرير الوطنيّ التّاريخيّة، وقدّم تضحياتٍ جسامًا مِن أجل أنْ يتكفّل بمصيرِه الجماعيّ في كنفِ الحريّةِ والهويّة الثّقافية الوطنيّة المستعادتين، ويُشيّد مؤسّساتِه الدّستوريّة الشّعبية الأصيلة...".

إنّ دور الحركة الوطنيّة في غرس قيّم الحريّة والتّذكير بعداوة المحتلّ، هو محلّ إجماع تاريخيٍّ لم يشذّ عن الاعتراف به إلاّ خائنٌ أو لئيم؛ لكنْ ثمّة حركةً إصلاحيّةً قد كان لها الدّور المشهود الّذي أحدث المنعرج الثّقافي العظيم في أمّةٍ جزائريّة استخدَمَت فرنسا جميع الوسائل لتجهيلِ أفرادها وقتلِ شعور الانتماء فيها؛ مشروعُ ثورةٍ فكريّةٍ ونهضةٍ علميّةٍ بذلت (جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين) التّضحيات في سبيل بلوغِ غايتِه، فشيّدَت  مدارسَه، وتحمّلت أعباءَه، ودفعت أثمانَه النّفسيّة والماديّة والمعنويّة؛ فكانت بجهادِها أحد قُطبَي تحرير الجزائر؛ فهما: قطبٌ علميٌّ إصلاحيٌّ سعى في تحرير العقل الجزائريّ، وقطبٌ وطنيٌّ سياسيٌّ سعى في تحرير الأرض الجزائريّة، وبين القطبين كانت تلك العلاقة الضّروريّة التّكامليّة، إذْ لا يُتصوَّرُ تحريرُ أرضٍ قد قُيّدَت فيها العقول، كما لا يُتصورُ تحرّر إنسانٍ قد احتُلّت حوله الحُقول..؛ وخيرُ برهانٍ على ذلك الدّور الدّاعم لقضيّة التّحرير تمهيدًا لها وانخراطًا فيها: ما أعلنه رجال الجمعيّة عبر خطاباتِهم وبياناتهم في عزّ الإعداد لحرب التّحرير، وما بذله آلاف أبنائِها ومنتسبيها مِن النّفس والنّفيس في ساحات الوغى وميادين الاستشهاد؛ وما زعمُ الكثير مِن الكتّاب غير الأمناء أنّ الجمعيّة برموزِها كانت بعيدةً عن الخطّ الثّوريّ ومضادّةً له! إلاّ محاولةٌ مفضوحةٌ لفصل الدّورين التّارخيّين عن بعضهما، وقطع الأمّة الثّائرةِ عن انتمائِها الإسلاميّ الوطنيّ.

وعليه؛ كان مِن المهمّ جدًّا إبراز ذلك الدّور في ديباجة المشروع، مع شيءٍ مِن التّعديل في السّياق والتّبديل أو الإضافة للكلمات الواردة.

03/ عدم الإبراز العمليّ للمادّة الثّانية (الإسلام دين الدّولة):

لازالت دساتير الجزائر تتعاقب على إيراد هذه المادّة في مقدّمة المواد الدّستوريّة بين دِفافِها، وهذا مِن الأشياء الّتي تُثمَّنُ وتُشكر مبدئيًّا -لا سيّما وأنّ المادّة مُدرجة ضِمن المواد الصمّاء- لما فيها مِن بعث الطّمئنينة في قلب الشّعب الجزائريّ المسلم؛ لكنّ عبارتَها العامّة غير العمليّة قد أضعفتها أمام مَن يُريد إزالتها مِن المُغرِضين، ومَن يسعى في القفزِ عليها مِن المتحايِلين، ممّا جعلها محلاًّ للتّأويل والتّضليل، حتّى ظنّ النّاس عدم جدواها بعدما أضحَت في الدّستور مجرّد شعارٍ لا يُعمل بفحواها في المؤسّسات ولا يُرجع إليها عند المُنازعات.

وعليه، كان الواجب إعادة النّظر في العبارة التّقليدية للمادّةِ بما يُعطيها بُعدًا عمليًّا يجعلها أكثر إلزامًا مِن حيث العمل بها والتّحاكم إليها، وتُصاغُ على إثْرِه الكثير مِن المواد الدّستوريّة الأخرى المستقلّة عن مبدئِها، حتّى نرى للمادّةِ أثرًا يتحقّق به معنًى مُجسِّدًا لرأس الأهداف المُعلنة في بيان أوّل نوفمبر -لا سيما بعد دسترتِه في المشروع-: (إقامة الدّولة الجزائريّة الدّيمقراطيّة الاجتماعيّة ذات السّيادة ضمن إطار المبادئ الإسلاميّة)؛ فقد كان مِن الممكن ضياغتها -مثلا- عل النّحو الّذي اقترحتُه في رسالتي إلى لجنة صياغة المشروع التّمهيدي لتعديل الدّستور (ملاحظات ومقترحات حول المشروع التّمهيدي لتعديل الدّستور 2020م)، وقد كان المُقترَح كالتّالي:

"الإسلامُ دينُ الدّولة وروح دستورها؛ يجب أنْ تتقيّد به المؤسّسات، وتنضبط به المعاملات، ويُحترم في الحياة العامّة والممارسات، ويُرجع إليه عند القضاءِ والمُنازعات".

04/ الغيابُ لما يفرض على الإدارات والمؤسّسات الرّسمية الالتزام بمبدأ (العربية هي اللّغة الرّسمية للدّولة):

إنّ جانب العناية باللّغة العربيّة في المادّة الثّالثة في مشروع الدّستور، مِن حيث العمل على ازدهارِها والتّوسيع لاستعمالِها والتّشجيع على التّرجمةِ إليها، هو جيدٌّ وممتاز؛ إلاّ أنّ الأصلَ في ترسيم اللّغات أنْ يكون له أثرٌ عمليٌّ مِن حيث ممارستِها في الميدان، لكنّنا عندما نرى بعض الوثائق الرّسمية والمراسلات الإداريّة لا زالت تتّخذ مِن اللّسان الفرنسيّ لغةَ تخاطبٍ رسميٍّ في كتاباتها وتقريراتها، نشعر -للأسف- بأنّ هذه المادّة الّتي بمقتضاها أصبحت اللّغة العربيّة لغة رسمية للدّولة، ليس لها الحكم المُلزِم الّذي يجب أنْ يخضع إليه كلّ مسؤول في خطاباته وكتاباته وتصريحاتِه الرّسمية، حتّى أضحى الأمر عادةً لم يُستثنى منها بعض مَن تبوّأ المناصب العليا في الدّولة! فما الفائدة مِن هذه المادّة إذا جعلناها في علاقة تطبيعٍ مع اللّغات الأجنبيّة -لا سيما الفرنسيّة-؟! كيف يُفسَّر ذلك الدَّوس الظّاهر على القوانين الّتي تُلزم التّعامل بالعربيّة في بعض المجالات؟ فالمادّة الثّامنة مِن قانون الإجراءات المدنيّة والإداريّة -مثلا- تُلزم المتقاضين بدفع الوثائق باللّغة العربيّة وإرفاق الأوراق المكتوبة باللّغات الأجنبيّة بترجمة عربيّة، مع ذلك قد تمّ التخلّي عن العمل بهذه المادّة في القضاء!

وعليه؛ كان لابدّ مِن استحداثِ بندٍ في هذه المادّة يتضمّنُ إلزامًا مؤكِّدًا بتعامل الإدارات والمؤسّسات الرّسمية باللّغة العربيّة، عبر الوثائق والمراسلات والتّصريحات والخطابات ذات الطّابع الرّسمي؛ وقد كنتُ اقترحتُ في هذا الصّدد تعديلا ضِمن مراسلتي للجنة صياغة المشروع التّمهيدي لتعديل الدّستور، تضمّنَ إضافةً تُصاغُ المادّةُ بموجبها على النّحو التّالي -إضافة البندين الثّالث والرّابع-:

"1. اللّغة العربيّة هي اللّغةُ الوطنيّة والرّسمية.

2. تظلّ العربيّة اللّغة الرّسميّة للدّولة.

3. يجبُ على المسؤولين والمُوظَّفين في المؤسّسات الرّسميّة التّعامل باللّغة العربيّة في الوثائق والمراسلات والتّصريحات والخطابات ذات الطّابع الرّسمي. ويُعاقب القانون المخالفين.

4. تُرفَقُ الوثائق الأجنبيّةِ في المؤسّسات بترجمةٍ رسميّةٍ إلى العربيّة.

5. يُحدث لدى رئيس الجمهوريّة مجلس أعلى للّغة العربيّة.

6. يُكلّف المجلس الأعلى للّغة العربيّة على الخصوص بالعمل على ازدهار اللّغة العربيّة وتعميم استعمالها في الميادين العلميّة والتّكنولوجيّة والتّشجيع على التّرجمة إليها لهذه الغاية".

05/ إِقرارُ المادّة الرّابعة (تمازيغت هي كذلك لغة وطنيّة ورسمية):

إنّه إقرارٌ لنصٍّ أوجِد في دستور 2016م...

وإنّ الأمازيغيّة عبر انتماءِ أبنائِها إلى جذورِها وتمايز لهجاتِها اللّسانيّة المتعدّدة غير الموحَّدة، جعل منها رصيدًا تاريخيًّا وموروثًا ثقافيًّا يستغني عن المزايدات الّتي أقحمته في متاهات الهويّة وحسابات السّياسة؛ فلم تستحقّ الأمازيغيّة كلّ ذلك الجدال لو تُركت في مكانها الطّبيعي بعيدةً عن لوثةِ العصبيّات الّتي تعمّدت الخلطَ بين فلسفةِ الهويّة ومسألة العِرق لتبتكرَ لنا أزمةَ لغةٍ لم يُضايقها أحد! فرافعت عن إدراجها لغةً وطنيّةً ورسميّة وهي لمّا تتوفّر على الشّروط الّتي تُبلّغها هذا المستوى، فضلاً عن الانْعدام للغةٍ تحمل مسمّى "الأمازيغيّة"؛ بينما الحقيقة تنتهي عند وجودِ أصلٍ أمازيغيٍّ -أو مازيغيٍّ- يتميّزُ بتنوّعٍ لسانيٍّ لدى أمّةٍ مِن البربر تتوزّع على شتَّى البقاع ومختلَف الرّبوع.

فالواقع أنّنا أمام أكذوبةٍ لغويّةٍ كان فرضُها لغةً وطنيّةً -أوّل الأمر عام 2002م- ضربًا مِن التعدّي على الأمّة وتاريخِها والأمازيغيّة نفسها، فضلاً عن خطيئةِ ترسيمِها بعد ذلك؛ فهي لغةٌ غير موجودةٍ أصالةً، وإنّما استُعيرت كلماتُها مِن لهجةٍ بربريّةٍ محليّةٍ يتحدّث بها الزّْواوة دون بقيّة أمازيغ الجزائر المختصّين هم كذلك بلهجاتٍ تُميّز كلاًّ منهم: كالشّاويّة، والمْزابيّة، والتّْرقيّة، والشّْنْويّة..؛ ولو توقّف الأمر عند دسترتِها لغةً وطنيّة لكان ذلك كافيا لها مُرضيًّا للمُتاجرين بها، بحكم وقوعِه نتيجةً للقاءٍ جرى على طاولةِ صفقةٍ بين النّظامِ البائدِ و(البربريست) الّذين قادوا حركةً جهويّةً بربريّةً رفعوا مِن خلالها مَطالب تحت شعارتِ العِرق والهويّة، باسمِ شعبٍ أمازيغيٍّ -أنا أنحدر مِن قبائله الكبرى- لم تخطر قضاياها على بالِه يومًا! فترسيمُ الأمازيغيّة وتعميمها هو مطلب الأقليّة مِن الأساس، لا أقول هم أقليّةً وسط الشّعب الجزائري فقط؛ بل أقليّةً بين أمّة القبائل الكبرى نفسها! فكيف يُعقل أنْ تَفرض الأقليّةُ مبدأَها على الأغلبيّة دون قضاء الاستفتاء؟! فما كانت لتُرسَّم الأمازيغيّة دون عرضها على الشّعب الجزائريّ ليقول فيها كلمته، لو لم تُقدِمْ العصابة -فيما مضى- على ترسيمِها فوقيًّا بطريقةٍ ماكرةٍ متسرّعةٍ غير مفهومةٍ ولا مدروسةٍ في ظلِّ حكمِ رئيسٍ غائبٍ عن الوعي، متجاوزةً بذلك حقّ شعبٍ عنده مِن عناصر الوِحدة بدينِه ولغتِه وتاريخِه ما تتمنّاه أكثر الشّعوب ولا تجده، ومتجاوزةً مبادئ الحركة الوطنيّة ومقرَّرات الثّورة الجزائريّة على اختلافِ أصول مَن سطّرها -فمنهم العَربيّان محمّد بوضياف والعربي بن مهيدي، ومنهم الشّاوي مصطفى بن بولعيد، ومنهم القبائليّ كريم بلقاسم- الّتي فصلت  في قضيّة الدّين والهوية كما يشهد عليها نصّ بيان أوّل نوفمبر ضِمن أهدافه الخارجيّة: (تحقيقُ وِحدةِ شمال إفريقيا في داخل إطارها الطّبيعي العربي والإسلامي).

إذا اعتبرنا الأسس العِلميّةِ الّتي تنبني عليها اللّغة، فإنّ اللّغةَ لا تتوقّف عند مجرّدِ التّخاطب بها؛ بل يجب أنْ يتوفَر فيها مِن القدراتِ والإمكانات ما يجعلُها وسيلةً للتّلقين ونقلٍ للمعارف، فكيف بترسيمِها؟! فاللّغةُ تتطلّب شروطًا لا تتوفّر في الأمازيغيّة الّتي لا زالت في طوْر التّشكيل غير مُتهيّئةٍ لترسيمٍ لم يحنْ أوانُه -كما أشير إليه في المادّة نفسها-، وإنّ اسْتعجالَ ترسيمِها قد يأخذ أبعادًا ويُرتِّب آثارًا لا حاجة للبلاد والعباد إليها؛ وقد وجد المرسّمون لها -في 2016م- أنفسَهم أمام إشكاليّةٍ تطبيقيّةٍ اختُرعَت لحلِّها لغةٌ معياريّةٌ اصطناعيّةٌ غريبةٌ على اللّغة البربريّة الأمّ باختلاف لهجاتها -سواءً اجتُهدَ عبثًا في توحيدِ اختلافِها أو غُلّب بعضها على بعض-، لا يفهمها إلاّ الفئة القليلة مِن الجزائريّين، فضلاً عنْ قراءتِها عبر حروفِ التّيفناغ الّتي يعجزُ عنْ إجادتِها متعصّبو الأمازيغيّة أنفسهم! وبعد الاختراع ظهرت إشكالاتُ تدريسِها والتّعامل بها من حيث المحلِّ على الجغرافيا ونوعِ الأحرفِ الّتي تُكتب بها -والخلاف لا يزال قائمًا إلى اليوم سواءً حول إثباتِ أصلها (التيفيناغ) أو اختيارِ نوعِها-؛ إشكالاتٌ أنتجت لنا تناقضًا في ذاتِ المضمونِ الّذي أصبحت مِن خلالِه لغةً رسميّة في الدّستور الحالي (2016م)؛ حيث نقرأ في أوّل بندٍ مِن المادّة الرّابعة: "تمازيغت هي كذلك لغة وطنيّة ورسميّة"، ثمّ نقرأ في البند الرّابع مِن نفس المادّة: "يستند المجمّع إلى أشغال الخبراء، ويكلّف بتوفير الشّروط اللاّزمة لترقية تمازيغت قصد تجسيد وضعها كلغة رسميّة فيما بعد"، فكيف تُمنح لغةً ما، صفة الرّسميةِ وهي لا تزال في مرحلة التّرقية لم تبرح ورشة الخبراء؟! وما الّذي تحقّق مِن مضمون بند المادّة الثّاني الّذي به التّرسيم جُعل مرهونا: "تعمل الدّولة لترقيّتها وتطويرها بكلّ تنوّعاتها اللّسانيّة المُستعمَلة عبر التّراب الوطني"؟! ثمّ ماذا تطوّر في منحناها بين الأمس في 2002م واليوم في عام 2020م حتّى تتطوّر إلى درجة التّرسيم؟!

 ستُسهم هذه اللّغة المعياريّة المخترَعَة لو تجسّد ترسيمها -ولا أظنّه يكون-، في القضاء على الأمازيغيّة الشّعبية الأصيلة وفي تآكلها واندثارِها على المدى البعيد؛ فلا هذه اللّغة تتطوّر وقد وُلدت هجينةً بدون حاضنة، ولا تلك اللّهجات تدوم مع وافدٍ يُهدّد بقاءَها سينسخ صفاتها ويُخلط مخارجها! ناهيكم عمّا يَنتُج عن ترسيمِها من تخصيصٍ لغلافٍ ماليٍّ ضخمٍ مِن الخزينةِ العموميّة يُنفَقُ على آلاف العاملين في سبيل تدريسِها وتطويرها المبيد لأصلِها -كما أشرتُ-، واستحداثِ ملايين اللاّفتات والأوراق عليها حروفٌ جديدة مِن غير طائل؛ دون نسيان الإشارة إلى أثر اللّغة الرّسمية الضرّة في الإخلال بما يُسمّى الأمن اللّغوي، مِن خلالِ مزاحمتِها للّغة العربيّة مُزاحمةً لنْ تكون إلاّ في صالح الفرنسيّة -وقد رأينا شغف رؤوس البربريست بالفرنسية في تخاطبِهم وهم للواء الأمازيغيّة يتبنّون-.

كان الأمازيغ أسعد بأمازيغيّتهم لو أُبقيت في الدّستور لغةً وطنيّةً لم تتجاوزْ درجتَها إلى مرتبة الرّسميّة، وهي بشخصيّتِها الثّقافيّة وأصالتِها التّاريخية الّتي تجري على لسانِ أهلها بأنواعِ لهجاتِهم أسلم من عواقب التّرسيم.

06/ إنعدام ما يحمي العَلَم والنّشيد الوطنيّين مِن المزاحمة:

إنّ الرّاية الوطنيّة في كلّ أمّةٍ هي رمز سيادتِها وولائِها وانتِمائِها، وإنّ النّشيد الوطنيّ في كلّ بلدٍ هو شعار هويّتِه وتاريخِه ونضالِه؛ فأيُّ رايةٍ أخرى تُقابلُ برمزيّتها راية الوطن، وأيّ نَشيدٍ آخر يُضاهي بشعارِه نَشيد الوطن؛ وجب أنْ يُعتبرَ ذلك أداة ضرارٍ وعمل شِرارٍ يقوم على مبدأ الانْفصال المُهدِّد لاستقرار البلاد والمخلِّ بوحدة العِباد؛ وما تلك الآثار الّتي جنيناها مِن التّساهلِ مع تلك الرّموز والشّعارات الّتي وُلدت ثقافيّةً هوياتيّةً ثمّ انتهَت سياسيّةً انفصاليّة، عنّا ببعيدة...

ومنه؛ كان لزامًا أخذ العِبرة عمّا مضى واستخلاصُ الدّرس لما يأتي، مِن خلالِ تجريم اتّخاذ الرّايات والأناشيد ضرائر للعَلَم والنّشيد الوطنيّين مِن حيث الرّمزية والشّعار؛ وقد كان بالإمكان -كما ذكرتُ في إحدى مقترحاتي إلى اللّجنة- إضافة بندٍ يُجعل ثانيًّا في ترتيب بنود المادّة 6 مِن مشروع الدّستور لتكون صياغتُها على الشّكل التّالي:

"- العلَم الوطنيّ والنّشيد الوطنيّ مِن مكاسب ثورة أوّل نوفمبر 1954 وهما غير قابلين للتّغيير.

- يُجرِّمُ القانون اتّخاذ أيّ رايةٍ أو نشيدٍ يُضاهي العَلَم والنّشيد الوطنيّين ويُزاحمهُما في الرّمزيّة والشّعار بشتّى الوسائل. (الفقرة المُقترحة)

07/ إضعاف دور المجالس المنتخَبَة:

جاء في المادّة 18 -وهي مادّة جديدة-: "تقوم العلاقات بين الدّولةِ والجماعات المحليّة على مبادئ اللاّمركزية وعدم التّركيز".

يقول السيّد بشير فريك -وهو مسؤول سابق تولّى منصب (والي) لبضع سنوات أواخر القرن الماضي- ما مفاده: "نحنُ نعرف أنّ النّظام الإداري المحلّي ومنذ الاستقلال يرتكز على نظام اللاّمركزية حيث تُشكّل المجالس المنتخبَة أهمّ أركانها، وتسعى الدّولة لتقوية دور تلك المجالس في تولّي الشّؤون المحليّة تكريسًا للدّيمقراطية بمفهومها الواسع، وفي الواقع نجد أنّ "عدم التّركيز" مِن خلال أعوان الدّولة -الوالي والمجلس التنفيذي- يشكّلون الطّرف الأقوى في معادلة الحكم المحلّي باعتبارِهم ممثّلين للسّلطات المركزية (الوزارات)؛ فالمعادلة مختلّة عمليّا وواقعيّا، وكلّ المختصّين والسّياسيين وحتّى الإداريّين القانونيّين ينادون بتخفيفِ عبء الإداريّ على المنتخَب في البلديّات، وخاصة الولايات؛ حيث يهيمن الوالي وتَفقد اللاّمركزية مغزاها وبعدها في إسناد أعباء التكفّل بانشغالات المواطنين إلى ممثليهم المنتخَبين. في حين يحتجّ أصحاب الرّأي الآخر بضرورةِ وجود الرّقابة على عملِ المجالس مِن جهة، وتمكينِها مِن كفاءاتِ الخبرة الإداريّة والتّقنية والماليّة في تسيير الشّؤون العموميّة المحلية.

إنّ التخوّف القائم مِن سنّ هذه المادّة الدستوريّة المكرّسة للمساواة بين المنتخَبين والإداريين على مستوى الجماعات الإقليميّة، مِن خلال الاعتراف دستوريّا بأنّ الإداريّ الممثّل لعدم التّركيز على نفسِ العلاقة مع المجلس المنتخَب الممثّل للاّمركزيّة في علاقاتِ الجماعة الإقليميّة بالدّولة، رغم أنّ المجالس المنتخَبة هي قاعدة اللاّمركزية في نظامِنا الإداري المحلّي المؤسَّس على مبادئ اللاّمركزية منذ الاستقلال؛ فهذا الأمر من شأنه أن يُقوّي تغوّل أجهزة عدم التّركيز على المنتخَبين، ويُهمِّش أكثر المجالس المحليّة الّتي تُشكّل أساس وقاعدة اللاّمركزية.

ومِن هنا أرى أنّه لا جدوى مِن هذه المادّة في الدّستور، في الوقت الّذي نُركّز فيه عبر خطاباتنا السياسيّة على دور المجالس المنتخَبة في ترسيخ الدّيمقراطية المحلية".اهـ (جريدة الحوار الجزائريّة: 5 يونيو 2020م)

08/ إنعدام الموازنة بين الحقوق والواجبات:

مِن الأشياء اللاّفتة للانتباه، ذلك الاختلالُ الظّاهر بين مواد مشروع تعديل الدّستور المتعلّقةِ بباب (الحقوق الأساسيّة والحريّات العامّة والواجبات)، أين طغت فيه الحقوق على الواجبات؛ وهذا يتنافى مع مبدأ تكريس معنى المواطنة الّتي تحرص عليه الدّول الحديثة في دساتيرِها مِن خلالِ موازنتِها بين الحقوق والواجبات، مِن ذلك ما تضمّنته الاتّفاقيّة الأمريكيّة لحقوق الإنسان -أو ما يُعرَف باتّفاقيّة حلف سان خوسيه كوستاريكا- مِن التّقارب الظّاهر في بنودِها بين الحقوق والواجبات، وما ذلك إلاّ للتّساوي بينهما مِن حيث الحجم والأهميّة؛ حيث يُساعد كلاهما على بناءِ دولةٍ صلبةٍ يقف كلّ فردٍ مِن أفرادِها عند حدودِه ومسؤوليّاتِه؛ بل مِن دساتيرِ الدّول ما ترجّح كمّ الواجبات فيها على الحقوق -على هذا عامّة الدّول الآسياويّة-. والتوسّط يكون في دسترةٍ تُوازِن بينها تقوم عليه الدّولة بأساسٍ سليمٍ مستقيمٍ غير معوجّ.

وعليه؛ أرى تغليبَ باب الحقوق على الواجبات لا يُنتج لنا مواطنًا مسؤولاً يستشعرُ دورَه اللاّزم اتجاه بلدِه ومَن حولَه، وإنّما يُخرجُ فردًا مُدلَّلاً يلهثُ خلف امتيازاتٍ يستنزفُ بها كلّ ما قدِرَ عليه باسم الحقوق -كما نُعايشه واقعًا-! فكان الأولى اعتبار هذا المبدأ لأهميّتِه الكبرى مِن خلالِ إعادة النّظر في توزيع الحقوق والواجبات، فيُجتهَدُ في تعديلِ ميزانِه، أو إدراج ما غاب مِن الواجبات الّتي يَلزمُ إدراجها، وكذلك نقل بعض الحقوق إلى إطار الواجبات بتغييرِ صياغتِها مثل فقرة: "للمواطن الحقّ في بيئةٍ سليمةٍ في إطارِ التّنمية المُستدامة" في المادّة 64، لتتحوّل -مثلا-إلى: "يجب على المواطن المحافظة على بيئةٍ سليمةٍ في إطارِ المشاركة في التّنمية المُستدامة".

09/ إطلاق الحريّة للرّأي:

جاء في المادّة 51 -المعدَّلة- ضِمن فقرتها الأولى: "لا مساس بحُرمة حرية الرّأي".

لا شكّ أنّ حريّة الرّأي مِن أعلى مقامات الحريّة الإنسانيّة لما تنطوي عليه مِن حريّة الفكر والضّمير، ولقد أصّل الإسلام -وهو دين الدّولة- للحريّة ووسّعت شريعته مجالها توسيعًا لم تصل إليه الأنظمة البشريّة، قام على مبدأ عدم استعباد النّاس وتقييد حريّاتِهم؛ لكن ثمّة ضوابط لا بدّ أنْ تُقيّد هذا المبدأ وتحفظه مِن الاستغلال؛ فقد يستغلّ ذلك الإطلاق بعض المنبوذين فيُمارسون مِن خلالِه حريّة الإلحاد وسبّ الإسلام، وحريّة الرّأي الشّاذ والفِكر المُنحرف، وحريّة الاستهزاء بالمقدّسات قولاً ورسمًا عبر الصّور الكاريكاتوريّة..، وغيرها مِن الممارسات المتمرّدة على الدّين والمنسلخة مِن العُرف؛ ففتح باب حريّة الرّأي بدون تقييد ولا تمييز، يندرج ضمن الحريّات المطلقة الّتي لا وجود لها واقعًا في أكبر الدّول ادّعاءً للدّفاع عن الحريّات! وقد أقرّت المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان -على سبيل المثال- في العديد مِن أحكامها بحقّ الدّول في فرض قيودٍ وتحديداتٍ قانونيّةٍ على ممارسة بعض الحقوق والحريّات أملتها -كما برّرت- ضرورات حفظ الأمن أو النّظام العام أو الآداب العامّة أو حقوق الآخرين وحريّاتِهم..

لا تظهر ثمّة حاجةٌ تقتضي هذا الإطلاق غير المبرَّر ضِمن مشروع دسترةٍ تُأسِّسُ لحريّة الرّأي دون قيدٍ ولا تمييز، لا سيّما مع نتائجِه في فتحِ البابِ على ضِعاف النّفوس للتمرّد على الثّوابت والانْسلاخ مِن الدّين فالدّعوة إليهما، ثمّ أثر ذلك على استقرارِ البلاد وأمنِها على المدى البعيد باعتبارِ المكانة الّتي تحتلّها الهويّةُ الدّينية في المجتمع الجزائري ورابطتُه الإيمانية الصّلبة بين أفراده، فضلاً عمّا يُمكن أنْ تتسبّب فيه الممارسة المُعلَنة لمُطلقِ حريّة الرّأي مِن التّمييع للثّوابت والإضرار بالنّظام العام.

وعليه؛ كان ضروريًّا تقييد فقرة (لا مساس بحُرمة حريّة الرّأي) بما لا يتعارض مع ثوابتِنا ومبادئِنا؛ تمامًا كما صيغت به المادّة 54 في موضوع حريّة الصّحافة ضِمن بند حقّ النّشر، حيث جاء فيها: "الحقّ في نشر الأخبار والأفكار والصّور والآراء في إطار القانون واحترام ثوابت الأمّة وقيمها الدّينية الأخلاقيّة والثّقافية".

10/ ضمان حريّة التّعبير وحريّتَي الاجتماع والتّظاهر بمجرّد التّصريح:

جاء في المادّة 52 -المعدَّلة- ضِمن فقرتيها الأولى والثّانية: "حرية التّعبير مضمونة.

حريّة الاجتماع وحريّة التّظاهر السّلمي مضمونتان وتُمارسان بمجرّد التّصريح".

إنّ الضّمان لحريّات التّعبير والاجتماع والتّظاهر مع إتاحته للأخيرتين بمجرّد التّصريح، مِن الأشياء الّتي تُشعر بجديّة الدّولة في عزمها على رفع القيود عن الحريّات؛ ولمّا كان هذا الباب مَدخلاً لسوء الاستعمال والاستغلال؛ استحقّ تقييد الأصل وتحديد النّوع بما يضبط الأمور أخلاقيًّا.

ومنه؛ كان مِن الأولى أخلقة حريّة التّعبير برسم خطٍّ عامٍّ لها لا تتجاوزه، وتقييد حريّة الاجتماع وحريّة التّظاهر السّلمي بتخصيص ممارستها بمجرّد التّصريح فيما إذا كانت ذات طابعٍ سياسيّ، والإبقاء على الاجتماعات والتّظاهرات الثّقافية والاجتماعيّة وغيرها على أصل اشتراط التّرخيص اعتبارًا لاحتمال إساءةِ استعمالِها واستغلالِها مِن البعض.

11/ حقّ إنشاء الجمعيّات بمجرّد التّصريح:

جاء في المادّة 53 -المعدَّلة- ضِمن فقرتها الأولى: "حقّ إنشاء الجمعيّات مضمون، ويُمارَس بمجرّد التّصريح به".

لمّا كانت إجراءات حقّ إنشاء الجمعيّات أسهل مِن إجراءات حقّ إنشاء الأحزاب مِن جهة ارتفاع شرط التّرخيص لممارستِه؛ بل يكفي مجرّد التّصريح لإنشاء جمعيّة؛ كان مِن الواجب ضبط هذا الحقّ بعدم سوء استغلالِه واستِعمالِه فيما يضرّ بالمجتمع والصّالح العام؛ ومنه، تقييد ممارسة حقّ إنشاء الجمعيّات بما قُيّدت به ممارسة حقّ إنشاء الأحزاب -كما في الفقرة الثّالثة مِن المادّة 57 مِن مشروع تعديل الدّستور-: "لا يُمكن التذرّع بهذا الحقّ لضرب الحريّات الأساسيّة، والقيم والمكوّنات الأساسيّة للهويّة الوطنيّة، والوحدة الوطنيّة، وأمن التّراب الوطني وسلامته، واستقلال البلاد، وسيادة الشّعب...".

12/ تدخّل الدّولة لتوسيع حظوظ تمثيل المرأة في المجالس المنتخَبة:

جاء في المادّة 59 -وهي مادّة قديمة- ضِمن فقرتها الأولى: "تعمل الدّولة على ترقية الحقوق السّياسية للمرأة بتوسيع حظوظ تمثيلها في المجالس المنتخَبة".

إنّما يقوم مبدأ التّمثيل في المجالس المنتخبة على الكفاءة مهما كان جنس صاحبها، والشّعب وحده هو الّذي يُقدّر الأجدر بتمثيله مِن بين تلك الكفاءات؛ وتدخّل الدّولة في هذا الشّأن باسم العمل على ترقية الحقوق السّياسية للمرأة عبر توسيع حظوظ تمثيلها في المجالس المنتخبة، يتناقض مع مبدأ المساواة بين المواطنين، ويُكرّس التّمييز على أساس الجنس، ويُعلن الوصاية على أصحاب الحقّ في اختيارِ ممثّليهم مِن الشّعب والعاملين في الحقل السّياسي -وفي هذا تقييد للحريّات-؛ وقد رأينا نتائج هذا التدخّل في الانتخابات التّشريعيّة الأخيرة وما أسفرت عنه مِن الضّعف الظّاهر مِن حيث جودة التّمثيل.

وعليه؛ لم تظهر أيّ فائدة مِن وراء عمل الدّولة على هذا السّياق ما دام حقّ المرأة في العمل السّياسي وترشّحها مضمونين، وحق الشّعب في اختيار مَن أراد مِن ممثّليه مهما كان جنسهم محفوظ؛ فكان الأولى إلغاء هذه المادّة مِن مشروع الدّستور لعدم وجود ما يُبرّر إيرادها ولثبوت ما يكشف آثارها السيّئة.

13/ عمل الدّولة على ترقية التّناصف بين الرّجال والنّساء في سوق التّشغيل، وتشجيعها لترقية المرأة في مناصب المسؤولية في الهيئات والإدارات والمؤسّسات:

جاء في المادّة 68 -المُعدّلة- ضِمن فقرتها الأولى: "تعمل الدّولة على ترقية التّناصف بين الرّجال والنّساء في سوق التّشغيل".

فُرصُ العمل في سوق التّشغيل بين الجنسين متساويّة، والأصل أنّ مبدأ اختيار المُستخدِم للعامل يقوم على اعتبار الكفاءة لا الجنس؛ فلا معنى أنْ تسعى الدّولة في سبيل هذا التّناصف المُكرِّسِ للتّمييز على أساس الجنس، كيف والواقع يحكي ظاهرة حِرمان الرّجل مِن حقّ التّشغيل بسبب امرأةٍ تُقدَّمُ على حسابِ كفاءتِه؟! بل المنطق يقضي بأنْ تُعطى الأولويّة في هذا الميدان للرّجل قبل المرأة، ليس لجنسِه وإنّما لمسؤوليّتِه الفطريّة والشّرعية الواجبة عليه اتجاه بناء البيت وإعالة الأسرة؛ فعلاوةً على تكريسِ هذا التّناصف للتّمييز، هو يُثبّتُ قاعدةَ حرمان الحقّ مِن صاحب الأولويّة به!

أمّا تشجيع الدّولة لترقية المرأة في تلك المناصب؛ فهو مرفوضٌ أيضا، لتكريسِه مبدأ التّمييز على أساس الجنس في موضع اعتبارِ أولويّة الكفاءة.

ومنه؛ فلا فائدةٍ مِن وراء عمل الدّولة على هذا المبدأ وتشجيعها له، إلاّ المزيد مِن الإخلالِ بأولويّة الكفاءة على غيرها، والمزيد مِن الإجحاف بحقّ الرّجل في شغلٍ يُعيل به أسرةً هو صاحب القِوامة فيها.

14/ الإبقاء على مجلس الأمّة:

إنّما جاءت فكرة إنشاء مجلس الأمّة في ظرفٍ تاريخيٍّ معروف للاحتياط به مِن مصادمةِ المجلس التّشريعي لدستور البلد وقوانين الجمهوريّة؛ ولم يبقَ ثمّة مسوّغٌ للإبقاء عليه وهو بمثابة الضرّة أمام الغرفة الأولى، يُمارس نفس الدّور ويُكرّره مستنفدًا الأموال الكثيرة مِن غير طائل على حساب الخزينة العموميّة، مع إمكانيّة قيام المحكمة الدّستوريّة بدلاً عنه أحسن قيام بدورِه الرّقابي على التّشريعات الصّادرة عن المجلس الشّعبي الوطني، لا سيّما وهي تضمّ نخبةً مِن القضاة والخبراء في المجال القانوني ممّا يُؤهّلها لأنْ تكون الأولى والأجدر بنقل مهمّة الغرفة الثّانية إليها.

ومنه؛ لم تتطلّب المراجعة لأساسِ وجود هذا المجلس العديم الفائدة، إلاّ مجرّد توسيعٍ لصلاحيّات المحكمة الدّستوريّة في المراقبة لمطابقة القوانين للإتّفاقيات الدّولية ولدستوريّة الأوامر الّتي يصدرها رئيس الجمهورية، إلى مراقبة القوانين الصّادرة عن المجلس التّشريعي بما يجعلها مشمولة بالمادّة 190 ضمن الباب الرّابع (مؤسّسات الرّقابة) مِن المشروع.

15/ إستقلاليّة القضاء:

جاء في المادّة 163 -المُعدّلة- ضِمن فقرتها الأولى: "القضاء سلطة مُستقلّة".

إنّ استقلاليّةَ القضاء مِن المطالبِ الّتي تبنّاها كلّ أصحاب القضايا العادلة في العالم، ودسترةُ عبارات "القضاء سلطة مستقلّة" و"القاضي مُستقلّ..." شيءٌ جميل؛ فإنّ الّذي يُفترضُ في القاضي الّذي تُمنح له هذه الميزة، هو أنْ يوضع بعيدًا عن الضّغوط والتحرّشات الّتي تُعيقه عن أداءِ واجبِه اتجاه أصحاب الحقوق عبر القضايا الّتي تُرفع إليه، وبالتّالي يحكمُ بما يجب الحكم به في الأشياء البيّنة المفصولةِ بالنّص، ويتحرّى الصّواب في المُشتَبِهات الّتي تستحقّ إعمال النّظر والاجتهاد؛ لكنّ هذه الاستقلاليّة أضحت سلاحًا ذو حدّين يتعسّف بها بعض القُضاة في حقّ المواطنين -للأسف-.

وعليه؛ لا يكفي أنْ يُترك القاضي إلى ضميرٍ قد يعدمه أصلاً! بل لابدّ مِن المرافقة لاستقلاليّته حتّى تَبلُغ مقصودَها فتكون ضمانًا لأصحاب الحقوق لا امتيازًا يركبه القاضي؛ وذلك مِن خلالِ إضافة نصوصٍ قانونيّةٍ تَستحدثُ هيئاتٍ رقابيّةٍ قضائيّةٍ -مثلاً- تُقيّد القاضي وتُعاقبه على القضايا البيّنة الواضحة الّتي يحكم فيها بخلافِ صريح النصّ؛ فكان ضروريًّا أنْ ترعى لجنة تعديل الدّستور هذه النّقطة بجديّةٍ كبيرةٍ، عبر صياغةٍ للمادّةِ تسدّ الثّغرات وتغلق الباب على المتعسّفين في الجانب المُشار إليه.

16/ ضُعف دور المجلس الإسلاميّ الأعلى:

جاء في المادّة 206 -المُعدَّلَة-: "المجلس الإسلاميّ الأعلى هيئة استشاريّة لدى رئيس الجمهوريّة. يتولّى على وجه الخصوص:

- الحثّ على الاجتهاد وترقيّته،

- إبداء الحكم الشّرعيّ فيما يُعرض عليه،

- رفع تقرير دوريّ عن نشاطِه إلى رئيس الجمهوريّة".

رغم تأكيدِ الدّستور في ديباجتِه على أنّ الجزائر أرض الإسلام، ونصِّه في مادّتِه الثّانية على أنّ الإسلام دين الدّولة -كما أقرّها هذا المشروع-، لم نرَ إلى اليوم هيئةً إسلاميّةً رسميّة تُعنى بالبحث والفتوى بما يرقى إلى مستوى طموح الشّعب الجزائري، على غرار المعمول به في عامّة الدّول الإسلاميّة حيث نجد الهيئة العليا للإفتاء أو مفتي الجمهوريّة ونحو هذا؛ ولا مجال للمقارنة بما هو موجودٌ في تلك البلاد مع المجلس الإسلامي الأعلى عندنا في الجزائر، لا مِن حيث الدّور ولا مِن حيث الأثر، لا سيّما منذ وفاة رئيسِه الرّاحل الشّيخ أحمد حمّاني -رحمه الله-؛ ويكفي هذا المجلس ضعفًا أنْ يتفوّق عليه المجلس العلمي للإفتاء -أو لجنة الفتوى الوزاريّة- أداءً وهو فرعٌ عن وزارة الشّؤون الدّينيّة والأوقاف؛ فضلا عن شعور المواطِن بارتباطِ هذا المجلس بالرّئاسة ارتباطًا أثّر في مصداقيّته، خاصّة بعدما أضحى المجلس هيئةً يقوم على رأسِها بعض الفلاسفة وإنْ كانت تضمّ بين أعضائِها ثلّةً مِن أفاضل العلماء المتخصّصين في الشّريعة.

ومنه؛ بناءً على عظمة المهمّة المقدّسة الّتي يُمكن أنْ تقوم بها هذه المؤسّسة الديّنية في بناء المجتمع المتماسك الأصيل وبذل الخير المُثمر الرّصين، وأثرهما في إحلال السّلام والاستقرار وإصلاح العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ اقتضَت حاجة الشّعب الجزائريّ المسلم وضرورة الدّولة بمؤسّساتِها إلى ذلك الدّور المأمول، إعادةَ بعث هيئة إسلاميّة تُناطُ بأمرِ الفتوى والبحث وإبداءِ الرّأي الشّرعي في العوارض والنّوازل، على أنْ تكون مستقلّةً كسائر الهيئات العليا وتُمنح قراراتُها طابع الرّسميّة كي يُستشهدُ بها في المؤسّسات والمحاكم ونحوها -لا سيما عند المنازعات-؛ فكان مِن الضّروريّ تجديد بناء المجلس الإسلامي الأعلى -تسميّةً وأداءً- فيُطلقُ عليه -مثلا- اسم (المجلس الإسلامي الأعلى للبحوث الشّرعية والإفتاء)، على أنْ تُصاغ المادّة الّتي يورَدُ فيها على النّحو الّذي اقترحتُه ضمن رسالتي إلى لجنة صياغة المشروع التّمهيدي، بحيث يكون المجلس مُعزَّزًا بمهامٍ وأدوارٍ تُبرزُ مكانتَه الرّسالية:

"1. يُؤسّس مجلس إسلامي أعلى للبحوث الشّرعية والإفتاء، يتولّى على الخصوص ما يأتي:

- الحثّ على الاجتهاد وترقيّته،

- إبداء الحكم الشّرعيّ فيما يُعرض عليه،

- القيام بالبحوث والدّراسات الشّرعيّة الّتي تُفيدُ الأمّة وتهمّ الدّولة،

- رفع تقرير دوريّ عن نشاطِه إلى رئيس الجمهوريّة.

2. يُأخذُ برأيِ المجلِس مِن طرف مؤسّسات الدّولة والهيئات الرّسمية والوزارات فيما يصدر مِن تشريعاتٍ وقوانين وتنظيمات.

3. تكتسي قرارتُ المجلس وفتاويه طابع الرّسميّة ويُستشهدُ بها في المحاكم والمؤسّسات".

وكذلك مِن بين الأسباب الّتي أدّت إلى إضعاف المجلس الإسلامي الأعلى ومنعِه مِن أداء دوره المنشود؛ بُعد تركيبتِه في مجملِها عن مستوى المهمّة أو مجال التخصّص الشّرعي بناءً على تعيينٍ لم تُراعَ مِن خلالِه طبيعة المجلس ورسالتِه، حيث تتجلّى هذه الحقيقة في المادّة 207 مِن المشروع -وهي مادّة كانت موجودة فأُقرّت-: "يتكوّن المجلس الإسلامي الأعلى مِن خمسة عشر (15) عضوًا، يُعيّنهم رئيس الجمهوريّة مِن بين الكفاءات الوطنيّة العليا في مختلف العلوم"؛ وإلاّ فإنّ موقع غير المتخصِّص في العلومِ الشّرعية -مهما عَلَت كفاءتُه- في المجلس، كان ينبغي أنْ ينتهي عند صفة المُستشار الّذي يستعينُ به المفتي في تصوّرِ الأشياء قبل الحكم عليها -على حسب المجال-، لا يتعدّاه ليكون عضوًا في هيئةٍ تتنافى خصوصيّتها وميدانه؛ فكان المطلوب إعادة النّظر في نوع تركيبةِ المجلس وطريقة تعيينها.

17/ إهمال أهمّ شروط إجراء التّعديل الدّستوري:

جاء في المادّة 221 -المُعدّلة-: "إذا ارتأت المحكمة الدّستوريّة أنّ مشروع أيّ تعديل دستوريّ لا يمسّ البتّة المبادئ العامّة الّتي تحكم المجتمع الجزائريّ، وحقوق الإنسان والمواطن وحرّياتهما، ولا يمسّ بأيّ كيفيّة التّوازنات الأساسيّة للسّلطات والمؤسّسات الدّستورية، وعلّلت رأيها، أمكن رئيس الجمهوريّة أن يصدر القانون الّذي يتضمّن التّعديل الدّستوري مباشرة دون أن يَعرضه على الاستفتاء الشّعبي...".

إنّ أولى الشّروط بالصّياغةِ ضِمن شروط التّعديل الدّستوري في هذه المادّة؛ هي (عدم مساس أيّ تعديل دستوريّ بشريعةِ الإسلام وثوابت الأمّة وقيمها الدّينية والأخلاقيّة والثّقافية)؛ فإنْ قيل هذا داخل في معنى قد تضمّنته المادّة نفسها عبر عبارة: "لا يمسّ البتّة المبادئ العامّة الّتي تحكم المجتمع الجزائريّ"، كان الجواب: العبارة عامّة شاملة لما أشرت، لكنّها جامعة غير مانعة لورود الاحتمالات ولا ممتنعةً عن حدوث الاستثناءات، فكان التّأكيد بصياغة العبارة المُقترحة أقطع للاحتمال وأثبتَ للاكتمال.

أخوكم محمّد بن حسين حدّاد الجزائري

الخميس ربيع الأوّل 12 ربيع الأوّل 1442هـ،

الموافق 2020.10.29م