5.09.2025

كَلمةُ حقٍّ في قضيّةِ الدّكتور محمّد الأمين بلغيث

 

كَلمةُ حقٍّ في قضيّةِ الدّكتور محمّد الأمين بلغيث



قد رجعتُ إلى المادّة الحواريّة الّتي بثّتها قناة (سكاي نيوز عربيّة) عبر برنامجها: السّؤال الصّعب، الّذي كان الأستاذ الدّكتور محمّد الأمين بلغيث ضيفًا على طاولته مؤخّرًا، وذلك بعد الزّوبعة الّتي أفرزتها، حِرصًا منّي -كعادتي- على الرّجوع إلى أصل الإثارة في مثل هذه الأمور حتًى أكون أمينًا متورّعًا فيما أخوض، وقد قال -عليه الصّلاة والسّلام-: ((كفى بالمرءِ كذبًا أن يُحدّثَ بكلّ ما سمع))[1]؛ وعادلاً مُنصفًا فيما أقول، وقد قال الله -عزّ وجلّ-: [[وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى]][2].

فألفيتُ كلماتِ الرّجل غير مستحِقّةٍ لتلك الجعجعة الإعلاميّةِ مهما خولف مِن خلالِها في بعض ما عبّر عنه وأبداه؛ فمجمل حديثِه عبر البرنامج تمحورَ حول العلاقة المتوتّرة بين الجزائر وفرنسا، وعدم تخلّي هذه الأخيرة عن ثوبها الاستعماري الّذي يبقى عَقَبةً أمام تجاوز النّزاع التّاريخي معها، كما كشفَ ضمنَ كلامه عبر الحوار التّحريضَ الّذي يقف وراءه الفرنسيّون على الحربِ بين الجزائر والمغرب.

أمّا حديثُه عن المسألة الأمازيغيّة؛ فكلامه فيها كان كلام متخصّصٍ في التّاريخ؛ لم يتجاوز مِن خلالِه حدًّا ولم يَشُقّ صفّا؛ بل لم أشعر -أنا شخصيًّا- أنّه استخفّ بأصولي البربريّة أو ازدرى تاريخها -وإن لم أكن بالضّرورةِ موافقا لما قاله-؛ فهو في الحِوار قد أقرّ بوجود البربر صراحةً ولم يُلغِ تاريخهم، وإنّما تحدّث عن غرابة مصطلح (الأمازيغيّة) مبيّنًا أنّه وليد مخابر استعماريّةٍ صُنع لكسر الوِحدةِ الوطنيّة، تطوّرت فكرتُه بعد تأسيس الأكاديمية البربريّة في باريس 1967م، حتّى تحوّلت إلى حركةٍ متعصّبة غَلَت في مطالبِها غلوّا انتهى بها إلى المطالبة بالاستقلال عن الجزائر..؛ كما بيّن أنّ ساكنةَ شمال إفريقيا منذ القِدم بربر والبربرُ مِن العرب أصالةً، وأنّ البربرَ ليسوا عِرقًا كما يظنّ البعض، ثمّ أكّد في نفس الحِوار على عدم إضمارِه لأيّ حقدٍ لمكوّنٍ من المكوّنات الشعبية؛ بل صرّح قائلاً نحنُ بربر وليس هناك شيءٌ يُسمّى أمازيغيّة، وإنّما ثمّة مكوناتٌ بربريّةٌ معروفةٌ تنتمي إلى الشّعب البربريّ، كالقبائل، والشّاوية، وغيرهما...

ثمّ لا بدّ أنْ أشير في هذا المقام إلى أنّ كلام الدّكتور بلغيث ليس بِدْعًا؛ بل قد سبقه إليه أكابر المؤرّخين؛ سواء ما تعلّق منه بغرابة تسميّة (الأمازيغيّة)، أو انتماء البربر إلى أصولٍ عربيّة.

فأمّا عن غرابة التّسمية؛ يقول شيخ المؤرّخين أبو القاسم سعد الله: "أمّا الأمازيغيّة فهي دعوةٌ تحتاج إلى توضيحٍ وكشف. والمتبادر إلى الذّهن منها أنّها دعوةٌ ثقافيّة، ولكنّها في الحقيقةِ سياسيّة، وهي مِن بيئتها وأبنائها ولكنّها فكرةٌ مُستوردَة. وهي كمصطلحٍ غريبةٍ كلّ الغرابة عن آذانِنا وتاريخنا، فكلمة البربريّة أكثر دلالةٍ على ماضينا سياسيًّا ولغويًّا. والبربريّةُ لهجاتٌ عديدة، مثل العربيّة، ومنها لهجة القبائل، وبدون الرّجوع إلى المصادر والتطوّرات نقول إنّ دعاة الأمازيغيّة هم بعض القبائل، وكان عليهم أن يُسمّوا الأشياء بأسمائها فيقولون مثلاً القبائليّة بدل الأمازيغيّة. ومهما كان الأمر فإنّ هذه النّقطة تحتاج -كما قلت- إلى كشفٍ وتوضيح للنّاس ليعلموا حقيقتها وأهدافها"[3].

ويقول المُؤرّخ د. ناصر الدّين سعيدوني -أستاذ التّاريخ الحديث بجامعتي الكويت والجزائر-: "وانطلاقًا مِن هذه الإشكاليّة سوف نعالج المسألة البربريّة في الجزائر باعتبارِها موروثا ثقافيّا ارتبط بالاستعمار الفرنسي، وواقعا معيشا أفرزته تجربة الحكم الوطني، وتعبيرا سياسيًّا عن قناعةٍ إيديولوجيّةٍ ومفهومٍ ثقافي، وهذا ما يدفعنا في هذه المعالجة إلى تجاوز العرض التّاريخي المبسّط والمقاربة الصّحفيّة المعبِّرة عن موقفٍ سياسيٍّ أو قناعةٍ إيدلوجيّة، والابتعاد عن التّعميمات والأحكام الجاهزة وتكرار ما كُتب حول هذه المسألة، وهذا ما يفرض علينا كذلك التّنبيه، في مستهلّ هذه الدّراسة، إلى أنّنا لم نأخذ باصطلاح (الأمازيغيّة) وإنّما استعملنا تعبير (البربريّة) لأصالتِه التّاريخيّة، ولكون مصطلح الأمازيغيّة كلمةٌ موضوعةٌ لغرضٍ سياسيٍّ أيديولوجيٍّ قائمٍ على مغالطةٍ لفظيّة، تحاول التستّر على الأصول الأولى لهذه المسألة وتهدف إلى تجاوز الخاصّ إلى العام، بحيث تكتسي قناعات النّخبة الدّاعية لها شكل مَطالبٍ مشتركةٍ وطموحاتٍ مشروعةٍ لمختلف الجهات الّتي توجد بها المجموعات النّاطقة بالبربريّة"[4].

 وأمّا عن انتماء البربر إلى أصولٍ عربيّة؛ فقد قال به جمعٌ مِن المؤرّخين وعلماء الأنساب في سياقٍ تعدّدت فيه الأقوال حول أصول البربر؛ حتّى إنّ بعضهم ألّف كتابًا خصّصه لبيان عروبة الأمازيغ، وسمه بـ: (البربر الأمازيغ عربٌ عاربة، وعروبة الشّمال عبر التّاريخ)، ومؤلّفه هو: الدّكتور عثمان سعدي.

فالحقّ أنّ الدّكتور بلغيث لم يخرج عن تخصّصه العِلمي فيما قال، ولم يتجاوز حدّه الثّقافي فيما أجاب؛ وإنْ كان كلامه قد أثار شيئًا مِن الحساسيّة والاستغراب باعتبارِ زمنِه ومحلّه؛ إذْ قضيّةُ الأمازيغيّة قد حسمَ أمرها الدّستور الجزائريّ -بنسبةٍ كبيرةٍ-[5] حسمًا قطع ألسنة المتاجرين بها، والمنبرُ الإعلاميُّ الّذي عبّر مِن خلالِه الدّكتور عن رأيِه ينتمي إلى بلادِ الإمارات العربيّةِ المتّحدة المتربّصة بالجزائر؛ ولكن هذا لا يمكن أنْ يُبرّر وصفَ هذا المؤرّخ الكبير بتلك الأوصاف القبيحةِ ونُكرانَ جهوده العلميّة الكبيرة وإسهاماته الفكريّة الرّاقية.

وضمن هذا السّياق، أرى أنّ تقريرَ النّشرة الإخباريّة الرّسمية للتّلفزيون الجزائريّ حول الجانب المتعلّق بالإمارات، جاء قويًّا صريحًا ومباشرًا بالكلمات الّتي تليق بتلك الدّويلة العميلةِ الّتي رضيت لنفسِها أن تكون أداةَ حربٍ ضدّ الإسلام والمسلمين، لكنّه في المقابل -في تقديري- لم يُحسن اختيار السّبب ولمثله أسبابٌ أخرى هي ألْيق به وأوْفق؛ فإنّ هَجو ذلك البلد وقادتِه العملاء بتلك اللّغة، لأنّ دكتورًا تحدّث في موضوع الانتماء الأمازيغيّ حديثًا علميّا عبر قناة إماراتيّة استضافته، لا أراه سديدًا ولا موفَّقا؛ فقد أخرج الثّعبان الإماراتي مِن جُحره مُتمسكنًا بجلدِ الضحيّة، ليقول للعالم: ما ذنبي فيما قاله مؤرّخٌ جزائريٌّ في موضوعٍ تاريخيٍّ أجرت الحوار معه جزائريّةٌ مثله، لأتلقّى تلك الأوصاف غير المرضيّة؟! فيُظهر البراءة وهو المجرم، ويبدي الصدّق وهو الكذوب...

أمّا وقد وقع التّجاذب مع كَيانٍ كان يُتوقّعُ أن يحدث معه أكثر مِن هذا يومًا ما، لا يُمكن لجزائريٍّ يُدرك حجم المؤامرة الّتي تقف خلفها شياطينُ الإمارات، أنْ يقف موقفًا رماديًّا والسّواد يلوّح بشروره في وجه بياضٍ تُنصبُ له الفِخاخ! فإنّ مصير الجزائر مرهونٌ بمدى وعيِ شعبها بحجم المخاطر الّتي تحذق بها، وقوّة وقوفِه صفًّا واحدًا في وجه الخفافيشِ المُرتَزَقَة.

ثمّ إننّي أضمّ صوتي إلى أصوات المُناشدين بتخليّة سبيلِ الدّكتور محمّد الأمين بلغيث وتبرئةِ ساحتِه، وأبصمُ بأناملي على كلّ الرّسائل المرفوعة إلى رئيس الجمهوريّة السيّد عبد المجيد تبّون في هذا السّبيل؛ فإنّ هذا الإنسان مهما طعنت فيه الأقلام وافترى عليه الإعلام -وقد بيّنتُ هشاشةَ التّهمةِ ضدّه- رجلٌ مشهودٌ له بحُبِّ وطنِه وغيرتِه على بلدِه، لا يُمكن أن يُزايدَ عليه في هذا أحد، فضلاً عن علوّ كعبِه في تخصّصِه العِلمي، وأمانتِه في ما يبثُّه قولاً وكتابةً مِن نُقول وفُصول، أمّا آراؤُه فهي قابلةٌ للأخذ والردّ قابليّةٌ تفرضُها طبيعة الكتابة التّاريخيّة، فإنّها كتابةٌ -كما هو معلوم- ترتكزُ على التّحقيقِ والتّدقيقِ فيما بين يدَي الباحث مِن وثائق وشهادات، وتفتقرُ إلى الاجتهادِ والنّظر الّذي تحتملُ نتيجتُه الصّواب والخطأ؛ لكنّها في النّهايةِ كتابةٌ تنضافُ إلى الخزانةِ التاريخيّة ليتبلورَ مِن الأوراق المجموعة فيها يقينًا ثابتًا أو ظنًّا راجحًا تُصفّي سطورُه بعضها بعضًا.

وإنّنا مُتفائلون بخبرٍ سارٍّ يردّ الاعتبارَ للأستاذ الدّكتور محمّد الأمين بلغيث، وستبقى الجزائر -بإذن ربّها الكريم المنّان- قويّةً بوحدتِها غنيّةً بمكوّناتِها، مُسلّمةً مِن الدّاءِ عصيّةً على الأعداء.

أخوكم محمّد بن حسين حدّاد الجزائري

الجمعة 10 ذو القعدة 1446هـ،

الموافق 2025.05.09م

نُشرت المادّة في ما يلي:  حسابي على الفيسبوك | المدوّنة



[1] سورة الأنعام: الآية 152.

[2] أورده مسلم في مقدّمة الصحيح عن أبي هيرة -رضي الله عنه-؛ وأخرجه أبو داود (4992)، وابن حبان (30)، والحاكم (386) باختلاف يسير.

[3] حوارات، أبو القاسم سعد الله (ص 101). نشر: عالم المعرفة للنّشر والتّوزيع -الجزائر العاصمة، الجزائر-/ طبعة خاصّة: 2015م-.

[4] المسألة البربريّة في الجزائر، د. ناصر الدّين سعيدوني (ص 142). مجلّة عالم الفكر: ، العدد 4.

[5] وقد سبقت دسترتها وأعقبتها نقاشاتٍ واسعةٍ وآراءٍ كثيرة تشرّفتُ إذ كنتُ مِن مشاركيها؛ قد كانت محلّ تنويرٍ وإثراء في مجملِها، إلاّ ما شذّ منها وصبّ في غير مصبّها المحمود.