4.07.2011

لَكِ اللَّهُ يا غَزَّةَ الشَّهَادَةِ و العِزَّة


لَكِ اللَّهُ يا غَزَّةَ الشَّهَادَةِ والعِزَّة

بسم الله، والحمد لله وحده، ناصر المستضعفين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وسيد المجاهدين، وبعد:
فصُور الدماء والأشلاء في غزة لم تفارقْنا منذ صبيحة يوم السبت، 29 ذي الحجة 1429هـ، الموافق 27 ديسمبر 2008م، وقد نقلتْها لنا مختلف وسائل الإعلام والقنوات الفضائية؛ لتبقى شاهدة مشهودة؛ بل تابَعْنا تدميرًا وإرهابًا على المباشر، يتبعه ويتلوه صراخ وعويل لنساء وأطفال؛ بل لرجال أحيانًا، فلم يملك أحدنا إلا دمعةً حارة يسحُّها على خَدَّيْه، أو يدًا مرتعشة يضعها على رأسه، وهو يرى عِزةً في غزة تُنتهكُ حرمتها، ومعاناة تُعالَج بالقنابل، وظلام تُضاف إلى سواده الآلام، ثم لا يدَ حانيةً تمسح دمعة يتيم، ولا كلمة قوية تخزي ظلم ظالم، وكأن بأخبار اليوم أضحت قصصًا ماضية، وكأن بصيحة الجسد المجروح وُجهت لضمير مفقود.
سَقَوْا فِلَسْطِيـنَ أَحْلاَمًـا مُلَوَّنَــةً          وَأَطْعَمُوهَا سَخِيفَ القَوْلِ وَالخُطَبَا
عَاشُوا عَلَى هَامِشِ الأَحْدَاثِ مَا انْتَفَضُوا        الأَرْضُ مَنْهُوبَةً وَالعِرْضُ مُغْتَصَبَـا
وَخَلَّفُوا القُدْسَ فَوْقَ الوَحْـلِ عَارِيَـةً          تُبِيحُ عِزَّةَ نَهْدَيْهَـا لِمَنْ رَغِبَــا
لكم الله يا أهل الشموخ في غزة الباسلة، لا نملك وقد رأينا معاناتِكم في عالم أعمى، وسمعنا صراخكم في دنيا صماء؛ إلا دعاءَ الله الواحد الأحد، ناصر المستضعفين، ومجيب دعاء المضطرين، أنْ ينصركم على عدوِّه وعدوكم، وأنْ يُريَنا مصارع القوم المعتدين تتوالى، كما رأينا صواريخهم تُضرب على الشعب المرابط.
إنها حلقة أخرى تُضاف إلى تاريخ فلسطين خاصة، والعالم الإسلامي عامة، قد شاهدناها بعيون حائرة، وتابعناها بقلوب ثائرة، كلنا قد تحول حينها إلى طائر يَودُّ أن يجنح إلى أرض الرباط، أو فارسٍ يسير بفَرسه إلى ساحة الوغى، لكنها أحلام سرعان ما تتلاشى تحت ظل واقع، يبشر بحلقات أخرى مِن معاناة لا تنتهي، إلا أن يشاء الله.
لكن لا ينبغي مع ذلك الانحناءُ والانزواء، وردُّ المشاكل إلى غيرنا؛ لنتحول إلى مساحة فارغة لا تُحسن إلا العويلَ والتباكي، وإن الحلول والله لكثيرة، علاوة على الحل العسكري، الذي اتخذه إخواننا في حركة حماس المجاهدة وسائر فصائل المقاومة خيارًا إستراتيجيًّا؛ ليقاتلوا بذلك العدو الصهيوني نيابةً عن الملايين من المسلمين.
وقد يقول قائل: ما هذه الحلول، التي هي عبارة عن نسج من الخيال في ظلِّ حصار مُحكم، يمنع حتى إيصال مجرد اللقمة الواحدة؟!
فأقول وبالله أستعين، وهو حسبي ونعم الوكيل: هي حلول خمسة:
الحل الأول: الحل الروحي:
فإن الأساس الذي يُحذَر من التفريط فيه تثبيتُ الأمة على العقيدة الصحيحة، المستمدة مِن الكتاب والسنة، وتعريفها بكلمة التوحيد وأصول الإيمان، وتحذيرها مِن مغبة الشرك بكل أنواعه، مِن ذلك الحذر مِن الاستعانة والاستغاثة بغير الله في هذه الظروف القاسية، ذلك أن الله إنما وعد بالنصر لمن نصره واستنصر به؛ حيث قال - سبحانه -: [[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ]] (محمد: 7)، وقال – سبحانه -: [[وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]] (الحج: 40)، وكذلك ضرورة الحِفاظ على كل أركان الإسلام وواجباته، ولنتأمل - رحمكم الله - كيف أوصى الله بالصلاة، وأرشد إليها، حتى في ظل المصائب؛ حيث قال – سبحانه -: [[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]] (البقرة: 153).
وإن المعاصي مِن أسباب الخذلان والهزيمة، ومَن انهزم روحيًّا، لا شك أنه منهزم عسكريًّا لا محالة، فالبداية إذًا مِن الروح، ولعل في غزوة أُحد خير عِبرة.
أما التسلح بالصبر والدعاء، فهما مفتاحا التوفيق والثبات، إذا أُحسنت آدابهما، وتُحلِّي بهما في كل حين، شدةً ورخاءً.
وليس هذا أمر أهل فلسطين خاصة؛ بل لأمة الإسلام عامة؛ فإن أجساد المسلمين جسد واحد، وقلوبهم قلب واحد، يتضرر الكل بتضرر البعض، ويصح الجميع بصحة الجماعة.
الحل الثاني: الحل الفكري:
ولعلماء الأمة الدور الرائد فيه؛ فإن ثقة الأمة فيهم لعظيمةٌ، ويجب أن يكونوا على مستوى الثقة التي وُضعت فيهم، وكل أحداث الأمة العظيمة عادة ما تجعل العيون مُصَوَّبة، والأعناق مُشْرَئبة، والآذان مصغية إليهم، ولا يجوز أن يتخلف الشهداء إذا ما دُعُوا، وإذا كان على الحكام تنفيذ الحق، فعلى هؤلاء بيانه أولاً، وكلمة حق مِن عالم أشدُّ مِن الرمي بالصواريخ؛ فإن الكلمة تحرك الروح، والروح تدفع الجسد، والجسد يرفع الظلم ويُحرر البلاد.
الحل الثالث: الحل العسكري:
أما هذا الحل، فقد مُضي فيه منذ مدة والحمد لله، وإنني أصغر مِن أن أسمي هذا حلاًّ، وقد اتخذه إخواننا الفلسطينيون شعارًا لهم منذ سنوات عديدة، بمختلف انتماءاتهم وفصائلهم، وهو أكبر مِن أن يُسمى حلاًّ والجهادُ ذروة سنام الإسلام، به يُدفع الإذلال عن الأمة، وتُحفظ عزَّتها، وهو جارٍ عمليًّا وميدانيًّا، سواء بانتفاضات متكررة، أو ضربات وعمليات تهز الكيان الصهيوني بين الفينة والأخرى، وتعده بالمزيد، فإن الذي زعزع أمن أمة بأكملها، لا حق له في أمن ساعة في أرضٍ دخلها عنوةً، ومَن دخل أرضًا بالقوة، لن تُخرجه إلا القوة.
هذا بالنسبة لأصحاب الجبهة، وماذا على بقية الأمة؟
لا شك أن هذا يعود أساسًا إلى الحكومات العربية والإسلامية، وجامعة الدول العربية بالخصوص، الاجتماعُ لدراسة الوضع الفلسطيني شيء جيد له قيمته، ولكن الأجود منه نوعية التوصيات التي تتمخض عن تلك الاجتماعات، وإلا فإن الأمة الفلسطينية ليست بحاجة إلى تنديد مجرد عن الفعل، أو إلى قول عارٍ من التطبيق، فلقد ضاع الوقت الكثير، وسال الدم الغزير، وأمثالُ بني صهيون لن يُلجم تَشَيْطنَهم إلا كلمةٌ قوية، تصحبها ضربة حديدية، تنقل العمل الميداني للمقاومة نقلةً نوعية مِن الدفاع إلى الهجوم.
ولن تستطيع دولة عربية وإسلامية واحدة بمفردها القيامَ بذلك؛ لعدة أسباب، لكن يُمكن للدول العربية والإسلامية مجتمعة أن تفعل ذلك؛ فإن العمل الجماعي العسكري له فائدتان: لا يُكلف خزائن هذه الدول المالية وعتادها شيئًا كبيرًا، ومن جهة أخرى يندفع عنها بذلك الحرجُ السياسي تجاه الغرب، الذي لا شك أنه سيقف في وجه أي محاولة تسير ضد الدولة السرطانية، لكن الجماعة قوة؛ لن يستطيع الغرب مجابهتها مجتمعة، بخلاف الانفراد، وإن يد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب مِن الشاةِ القاصيةَ.
ولا شك أن تمرير السلاح إلى فصائل المقاومة أكبر ما يحتاجه الشعب الفلسطيني في الوقت الراهن؛ إذ مسألة الجنود غير مطروحة الآن عندهم؛ فإن لفلسطين مِن المخزون البشري الذي تسري في عروقه روح المقاومة - ما يكفي - والحمد لله - ولكنها أيادٍ لا سيوف لها ولا غمدان.
الحل الرابع: الحل الاقتصادي:
لا شك أن الحصار الظالم المضروب على غزة قد أضرَّ كثيرًا بالشعب هناك، والناس في صبرهم يتفاوتون، والعدو الصهيوني ما رمى بضربه هذا إلا إلى تركيع المقاومة، مخططًا لانقلاب متوقع مِن الشعب على حكومته، بعد أنْ تعجِز أن توفر له لقمة العيش، وهذا ما لم يتحقق، وخاب توقعهم والحمد لله، الأمر الذي أفقد إسرائيل صبرها، وعجَّل لها باتخاذ قرار الدمار بعد الحِصار، الذي زعزع نوعًا ما أولويات الحركة، وهي ترى شعبًا يَئِنُّ تحت مطارق الجوع والظلام، لولا أن الله سلم.
إن حدود فلسطين ليست معبرَ رفح وحده؛ بل هناك حدود ممتدة، ومعابر أخرى، فيجب على البلدان المتاخمة لأرض فلسطين أن تُسعف أبناءها وإخوانها مِن هذه البلاد، ولا يعني هذا نسيان مشكلة معبر رفح؛ بل يجب أن يُعاد فتحه عاجلاً، قبل حلول الكارثة الإنسانية التي حذَّر منها الغرب نفسه؛ إذ لا معنى في أنْ يُجلد شعب أعزل بأكمله؛ بسبب أن قَدَره كونه من غزة، وهذا التعجيل تُمليه القوانين الدولية، علاوة على روابط الأخوة الإسلامية والعربية.
الحل الخامس: الحل السياسي:
الجانب السياسي لا ينبغي أنْ يُستهان به؛ فإنه وإن كان لا يرفع الأزمة كلية، فسوف يساهم في تخفيفها على الأقل، ما روعي فيه روح العزة والكرامة، أما مفاوضات الشروط المسبقة من العدو، وحوارات الخضوع والاستسلام، فلن تزيد فلسطين إلا وهنًا، ولن تزيد الصهاينة إلا قوة، فإن هؤلاء اشتهروا عند العام والخاص برميهم من خلال المؤتمرات والمفاوضات المنعقدة معهم إلى تلميع صورتهم، وربحهم الوقت، ووضع أصحاب الحق في صورة الإرهابيين الذين لا يبتغون سلمًا ولا سلامًا.
وإن أنظمتنا الإسلامية والعربية لتزخرُ برجال ذوي حنكة في السياسة، وقدم راسخة فيها، يستطيعون أداء الدور المنشود رفقةَ رجال فلسطين وغزة، إذا ما وُضعت الثقة فيهم، وشُدَّ على عضدهم مِن طرف الجميع.
ولعل أول قرار ينبغي اتخاذه مِن طرف بعض الأنظمة طرد السفراء الإسرائيليين مِن بلدانهم، فإنه أمر إذا لم تُملِه فنون السياسة، فإن مبادئ الأخلاق تُحَتمه.
ولنا في تاريخ الجزائر المجاهدة عِبرة؛ فإنه في الوقت الذي كانت المعارك الحامية تُدار على أعالي الجبال مِن طرف رجالات المقاومة والثورة الجزائرية، كان الوفد السياسي يؤدي دورًا - نعْم الدور - في تدويل القضية الجزائرية، وعقد المفاوضات مع المستعمر الفرنسي، دون خضوع، أو استسلام، أو مناقضة للجناح العسكري لجبهة التحرير الوطني؛ مما بشَّر وأثمر بعد ذلك بإشراق شمس الاستقلال على الجزائر، صحيح أن المعطيات والوقائع تختلف اليوم، لكن حركة التاريخ بين جولاتِها شبهٌ كبير.
أدركنا جميعًا أن القضية الفلسطينية ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، وأن أحداث غزة ليست مشكلة حكومة حماس وحدها، وأن مقاومة المحتل ليست مهمة الفصائل الجهادية وحدها؛ بل إن القضية قضية كل مَن شهد لله بالوحدانية، ولنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة، ولن يقر لأمة الإسلام قرارٌ، ولن يهدأ لها بال، ما دام هذا الجسد السرطاني الإسرائيلي في قلبها، وإن الله سائلنا، وسائلٌ أصحابَ القرار عن كل دم فلسطيني أهدر بغير حق، وعن كل دمعة ذُرفت تحت الظلام، وعن كل صرخة شُقَّ بها الفضاء، وإنْ عهد صلاح الدين قد ولَّى، ولكن الأمة التي أنجبت أمثال صلاح، ما زالت حيَّة، فأبشِري يا دولة الطغاة والطغيان بما يسوءُكِ مِن الطوفان، فإن التاريخ لا يُقدر بزمن، والزمن في رحمه مفاجآت، وإن أنصاركم أنصار لمصالح عابرة، وأنصارنا أنصار لعقائد ثابتة، وإنْ ربحتم معركة اليوم، فإنكم ستخسرون حرب الغد، ولسوف يكون ختامُها نورًا ونصرًا وعزَّة للمسلمين، ونار وخيبة وذِلة لليهود المعتدين، وإن قتلانا لفي الجنة، وإن قتلاكم لفي النار، والله أكبر على مَن طغى وتجبَّر، وهو نعم المولى ونعم النصير.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
أخوكم محمد بن حسين حداد الجزائري
ليلة الاثنين 01 محرّم 1429هـ، الموافق 29/12/2008م