4.13.2011

يا نَشْء أَنْتَ رَجَاؤُنَا


يا نَشْء أَنْتَ رَجَاؤُنَا


أيّها الطّلب الحبيب -والطّالب أقصد به الذّكر والأنثى إطلاقا وتغليبا- إنّي راوٍ لك قصّةً فتأمّلها واحفَظها، فإنّك قد لا تجدها عند غيري ولا أظنّ أنّك لها واجد، ذلك أنّ طريقها عزيز غريب، وراويها قد واراه مأوى كلّ غريب، حتّى تعلم أنّ جملة الإمام ابن باديس -رحمه الله- الّتي جعلتُ صدرَها عنوانا لهذا المقال، ما خرجت على لسانه إلاّ بعدما اقْتاتَت مِن قلبه اقْتِياتا يَكشِف سرّ خلود الرّجل وكلماته، لتَعقِل بعد ذلك ضرورة إيجاد الجملة منزلةً في قلبك.
فضيلة الشّيخ لخضر جبروني -رحمه الله- كان رجلا مِن روّاد مسجد حيّي وهو أحد تلامذة ابن باديس الّذين عاصرتُهم واكْتَحَلتْ عيني برؤيتِهم، سُئل يوما مِن طرف شيخنا عبد الفتّاح زِراوي -العضو بأحد فروع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والمشرف العام على موقع ميراث السنّة- عن بعض مواقف الإمام، فأجابه بالحديث عمّا رآه بعينه فقال: جاء الإمام عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- إلى الجامع الأخضر بقسنطينة لإلقاء درسه المعتاد في تفسير القرآن الكريم والنّاس في الزّمان والمكان منتظرين، حتّى إذا وصل عند عَتَبَة باب الجامع وقف هُنَيَّةً، ينظر إلى ساحة الجامع وقد غَصَّت بالطلاّب والمتعلّمين ينتظرون الدّرس، مُتزاحِمَةً رُكَبهم، مُشرئِبَّةً أعناقهم، ثمّ يُجاوز الإمام العَتَبة قاصدا كرسيّ درسه، متخطِّياً الجموع المتزاحمة، وهو  يُردِِّد بصوت مسموع، مُتهلِّلَ الوجه، مُغْرَوْرِقَ العينين، ذارِفَ الدّموع، على الخدّين قائلا: "يا نشء أنت رَجاؤُنا     وبك الصّباح قد اقترب".
رحمكَ الله أيّها الإمام وطيّب ثَراكَ، وجَعَل الجنّة مُتقلَّبكَ ومَثْواكَ؛ فكم أحيَيْتَ مِن قلوب، وحرَّرْت مِن عُقول، فجَعلتَ مِن أصحابها أنواراً للمهتدين، ونيراناً على المعتدين.
رائِعة مِن روائع الشّيخ العلاّمة المُصلح الإمام عبد الحميد بن باديس، رَسَمَت هذا البيت وما قبله وما بعده، وإنّما انْتَقَيْتُه دون بقيّة الأبيات لقوّته ومباشرته الخطاب، وُجِّه للنّشء الّذي عاصر الإمام، ولا يزال يُوَجَّه لكلّ ناشِئٍ مُمَيِِّزٍ عاقل، فكأنّما كُتب على لوحة سماوية تُظِلُّ مَن تحتها، فلا يستطيع أحد لها مسحا ولا طَمْسا، بيت قد حَفظتَه أيّها النَّشء كما حَفظَه سابِقوك، بل رَسَخ في حافِظَتك وذاكرتك رُسوخا قويّا لا يتَزعزع، فأنت المُردِّد والمُنشِد إيّاه رِدْحا مِن زَمَنٍ لا يزال يمضي بك على مقاعد الدّراسة.
فبارك اللهُ في هذه الحافظة والذّاكرة الّتي وَجَدَت فيها العلوم والأنوار مُتَبَوَّئا، لكنّني أستسمحكَ أيّها الطّالب العزيز سائلا: هل وجَدَت تِلك الكلمات مع رُسوخها الذّهني مكانةً في قلبك ووعياً مِن عقلِك؟ أم  هي مجرّد كلمات تُردَّد وعبارات تُلفظ لا تكاد تُجاوِز حنجرتك؟!
وليس لمِثلك بدينِك وجزائريّتِك أنْ يكون حظّه مِن البيت التَذكُّر على حساب التَدبُّر، والمَباني على حساب المَعاني، والتَّسْلِية على حساب التَّحْلِية، وما هذا إلاّ لأنّ البيت قد خرج مَخْرَج الوصيّة للأبناء والأحفاد، مُتجاوزا المعنى الضيّق للوصايا الّتي تراعي عادةً أمور الأموال والأوقاف والمواريث؛ بل هي وصيّة ذهبيّة مِن رَجل ربّاني إلى أجيال متعاقبة في أزمنة متلاحقة، قد جاءت لغتها سهلة العبارة واضحة المعنى؛ فالمُخاطَب هم الطلاّب والشّباب الّذين ترجو منهم أمّتهم رفع الجهل عنها والذلّ الّلذان يُشَبَّهان عادة باللّيل والظّلام، فيكون اجتهادهم وسعيهم لتحقيق هذه الرّسالة النّبيلة صباحا يقترب فيبزغ فجره بعد ليل مُظلِم، و يُضيءُ نوره بعد ظلام دامِس، يزداد اقتراباً كلّما قوي الاجتهاد وزاد السّعي، حتّى يُؤسَّسُ لأسباب عِزَّة الأمّة وتمكينها.
فلا تجعل نفسَك أيّها الطّالب الغالي استثناءً مِن المُوصَى له والمُوصَى به؛ بل أنت المُخَصَّص والأَولى بذلك ما توجَّه إليك الخِطاب قراءةً منك واستماعاً، فقد أضحى لغيرك خبراً ولك إنشاءً.
أيّها الطّالب البارّ؛ والله لقد حَرَّك موقف الإمام في نفسي أشْجانا واستدرّ مِنّي دموعا، فهلاّ وَجَد ذلك مِنك على الأقلّ تأمّلا في كلماته وأخْذاً العبرةَ منها، فإنّها رسالة تنفعك أكثر مِن مئات الرّسائل، إذا كان لك قلب وألقيت السّمع وأحسنت الوفاء.
وهذه بلادك الجزائر؛ قد خَلَت مِن المُسْتدمِرين بجُهد العلماء المصلحين وجهاد الأبطال المجاهدين بعد فضل اللهِ -سبحانه- فإذا بها أرض حُرَّة غَنَّاء تُكْرِم وتأوي أهلها، بعدما سُقِيَت جنّاتها عَرَقا ودما، فحافظ أيّها الوَلَد على يوْمِها وغَدِها كما حَافظ أولئك على أَمْسِها، وستجدها كريمَةً مِعطاءةً ما أكرمتَها وأعطيتَها تفكيركَ وجُهدك في تثبيت راية الإسلام والتّوحيد عليها، وتأسيس أسباب التفوّق الحضاري فيها.
ولا تُشغلنَّك سَفاسِف الأمور، وهَنّات الطّريق، عن الوصية والمُضي في تحقيقها، فَكُنْ كالعَلْياء والجبل الشّامخ، وإيّاكَ أن تلتفت لنداء خبيث، أو تُجيب دعوى مفرِّق، أو تنظر إلى بريق مُغري.
فلا يزال الرّجاء مُعَلَّقٌ فيك بالقيام على ما يَحفظ دينك وينهض بوطنك، حتّى يَكتب اللهُ على يديك إشراقاً بعد ليلة ظَلْماء، وحياةً بعد موتٍ على الرَّمْضاء، وفَرَجاً بعد لأْواء.
كُن خير سلَفٍ لخير خَلَف، وإنّي داعٍ أنْ يحفظكَ اللهُ -سبحانه- ويوفّقكَ إلى ما يُحبّ ويرضى، ويحَبِّب إليك الإيمان ويزَيِّنه في قلبك، ويَجعلك مِن الرّاشدين، وأسأله الواحد الأحد أنْ يَقيك مِن الشّرور والفِتن، ويرفع بك الهموم والمِحن، ويقيم بك الدّين ويكتُب على يديك رجاء الأمّة.
   أيّها الطّالب الحبيب العزيز الغالي...؛ يا نشء أنت رجاؤُنا و بك الصّباح قد اقترب...
أخوكم محمد بن حسين حداد الجزائري
الثّلاثاء 14 شوّال 1429هـ،
الموافق 14/10/2008م