5.31.2011

بين أحفاد عمر المختار ومرتزقة الجنون والدّمار



بين أحفاد عمر المختار ومرتزقة الجنون والدّمار

لا يكاد أحدنا يسمع بليبيا إلاَّ من خلال قائدها المزعوم "معمَّر القذّافي"، الّذي ملأ الدُّنيا إثارةً من خلال خروجاته في المحافل الدَّولية والمؤتمرات العربية، الّتي كانت - دائمًا - محلَّ فضول وانتباه، وربَّما مَدَحَه بعضُنا على ما جرى على لسانه في ثَنايا تلك التجمّعات، فقد أظهر للعالم ما يحنّ إلى رؤيته كلُّ شعبٍ مغلوب من حاكِمِه، فظُنَّتْ مواقفُه جرأةً غيرَ مسبوقة في وجوه الدُّول المتسلِّطة، وشجاعة منقطعة النَّظير أمام الإمبراطوريات الصِّناعية، قبل أنْ ينكشف الأمرُ ويُرفع السّتارُ عن المسرحية، من خلال حربٍ عمياءَ أعلنها العقيد المتهوّر على شعبه الأعزلِ وهو يخرج يوم السّابع عشر من فبراير مطالبًا بالحقوق في مظاهرة سلمية، قوبلتْ بقوّة مسلَّحة لم تُعرف فيها مياه مفرِّقة للجموع، ولا قنابل مُسيلة للدّموع، ولا حتَّى رصاصات مطَّاطية! لنُدرك أنَّ الرَّجل مجرّد مهرِّجٍ مُولعٍ بالحديث المثير، ونتأكَّد من جنونه وسفاهته، وكذبه ووقاحته، وهو المجترأ على مقدّسات الأمّة، والمُستخفُّ بشرائعها ورموزها أكثر من مرَّة[1].
ثمّ تُقرِّر ليبيا أن تقوم لتصحِّح مسارَ التَّاريخ وتردَّه إلى سِكَّته وسابق عهده، قيامًا رسمه خروجُ الأمَّة اللّيبية عن بَكْرة أبيها، لتنحيةِ حاكمٍ أوهم العالمَ أنَّ شعبه مسكونٌ بحبِّه، وطاغيةٍ مجنون حجب الشّمسَ عن بلاده، ومُتغطرسٍ مفتونٍ بنهب خيرات الشَّعب وثَرَواته، وهو النَّافي عن نفسه حكم ليبيا ورئاستها، لكنَّه يفتخر بكونه عميد القادة العرب، ويزعم أنَّه ملك ملوك إفريقيا!
ترقَّب النّاس خروج "القذَّافي" مخاطبًا شعبه، ليتحدَّث بلغة العقل ولسان الحكمة، لكن - للأسف - لم يُرَ منه إلاَّ التخبُّط في كلامه، والشدَّة في خطابه، كما فعل ابنُه (سيف الإسلام) قبلَه؛ فقد كان الشَّتم والتَّهديد، والكذب والوعيد، اللّغةَ البارزة على لسانهما، بل التّبشير بفناء ليبيا دون القذّافي؛ فهو مجدُها وفاتحها ورمز النِّضال فيها، وهيهاتَ أن تُصدِّق ليبيا من حَكمَها أكثر من أربعين سنة بالوعود الكاذبة، والشِّعارات الزَّائفة.
وكأنِّي - اليوم - بكلِّ ليبي يقول:
أَوْهَمُوا النَّاسَ أَنَّنَا فِي احْتِيَاجٍ          وَلَهُمْ ثَرْوَةٌ بِهَا زَوَّدُونَـا
 قَاسَمُونَا فِي أَرْضِنَا كُلَّ شَيْءٍ          أَوَلَمْ يَكْفِ أَنَّهُمْ أَفْقَرُونَا
 خَدَعُونَا فِي زَعْمِهِمْ يَوْمَ قَالُوا          إنَّهُمْ مِنْ عَدُوِّنَا حَرَّرُونَـا
 فَاسْتَمَالُـوا نُفُوسَنَا بِوُعُـودٍ          لَنْ تُوَفَّ وَلَوْ صَبَرْنَا قُرُونَا
 أَيُّ قَيْدٍ فَكُّـوهُ عَنَّا بِوَعْـدٍ          فَاسْأَلُوهُمْ كَمْ مَرَّةٍ رَاوَغُونَا
 لَمْ يَفُكُّوا الْقُيُـودَ بَعْدُ وَلَكِنْ          كَبَّلُونَا بِغَيْرِهَـا كَبَّلُونَـا
 عَاهَدُونَا بِالذَّوْدِ عَنْ كُلِّ حَقٍّ          مَا لَهُمْ لَمْ يَفُوا بِمَا عَاهَدُونَا[2]
وليست الثَّوراتُ بجديدةٍ على أهل ليبيا، وهم اللَّذين قاموا ضدَّ الوندال في القديم، والرُّومان من بعدهم، قبل أن تُشرق شمسُ الإسلام على بلادهم في بَرْقة، ثمّ طرابلس، ثم صبراتة، ومن بنغازي الأبيَّة - اليوم - انطلقت قافلة الحريَّة، كما انطلقت - ذات مرَّة - ضدَّ إيطاليا المحتلَّة عام 1911م، لتنتشر في رُبوع ليبيا وتصلَ إلى أعماقها، فيشهد العالم توحُّدَ أحرار البلاد وأشرافها - شعبًا وجيشًا، وقبائلَ وعلماءَ، ومسؤولين سابقين - إلاَّ ما استثناه كذبُ القذَّافي وابنه من التحام النَّاس حوله! وهو الَّذي لم يبق معه إلاَّ مرتزقة الذلِّ، أو مضطرٌّ لا يملك للنَّجاة بنفسه إلاَّ الصَّبرَ إلى أنْ يأذن الله بفرجه.
أمَّة تكتشف نفسَها حفيدةً لعمر المختار، فيتوعَّدها المجرمون بالإبادة والفناء، كما توعَّد الطَّليان جدَّهم، يقولون لهم - على سياق قول زعيمهم -: "سوف نزحف إليكم لتطهير ليبيا منكم، شبرًا شبرًا، بيتًا بيتًا، دارًا دارًا، زنقة زنقة، فردًا فردًا... إلى آخر طلقة نارية"، وانطلقوا إلى تحقيق الوعيد، فما كان من الأحفاد إلاَّ إجابتهم بجواب الجَدِّ السَّديد: "نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت"، وما أشبه اللّيلةَ بالبارحة! وربُّ المستضعفين فوقهم بالمرصاد يُملي للظَّالمين، وإنَّ أخذه لهم لوشيكٌ، [[ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ]] [3].
فليس هؤلاء الصنَّاعُ للحريَّة بجماعةٍ مسلَّحة، ولا منظَّمة إرهابية، ولا أقلية انفصالية، كما وصفهم فاقدو شرعية الحكم في ليبيا - تدليسًا للحقيقة، وتعتيمًا على الإعلام - بل هم عمومُ أفراد شعب ليبيا، قد قرَّروا الانعتاقَ من الاستعباد، بعد صبر دام أربعين سنة ونَيِّفًا، فالتحق بهم الجيش وأيَّدهم العلماء[4]، وهذه صُوَرُ الشَّعب الحرِّ قد انتشرت في العالم انتشارًا، تُظهِر الواقع لكلِّ ذي عينين، وتفضح الكَذَبة وتردّ عليهم الوصفَ نفسه، وقد أصرُّوا على حُكم اللّيبيين على طريقة جماعة المافيا والنِّظام الإقطاعي.
إنَّ ما فعلتْه كتائبُ القذّافي في مُصراتة، وأجدابيا، وطرابلس، والزَّاوية، والزِّنتان، وغيرها من مدن ليبيا وقُراها، لَيفرِضُ على العالم استنكارَ هذه الجرائم، والوقوفَ مع ضحاياها وهم يُضمِّدون جراحهم، ويجمعون أشلاءهم، ويعدُّون قتلاهم بالآلاف، تحت قصفٍ بالطّائرات، ورمي بالدبَّابات، الَّتي هدمت البيوت على الآمنين، بمن فيها من الأطفال والنِّساء والشُّيوخ، فضلاً عن صنيع القنَّاصة الغادرين، وتعدِّي الجبناء إلى اغتصاب حرائر ليبيا؛ انتقامًا من أسود بنغازي ومن سار على خُطاهم[5].
ولم يبق بعد هذا حجَّةٌ لمن سكت عن الإنكار، أو تحفَّظ في الوقوف ضدَّ جرائم القذَّافي، تحت مسمَّى الضَّبابية وعدم وضوح الرُّؤيا، أو التّبرير بكون القضيَّة داخلية تخصُّ أهل ليبيا، أو تحت غطاءِ رفض التدخُّل الأجنبي؛ فكلُّ الحجج واهية متساقطة، وقد حثَّ الإسلام على نصرة المظلومين وإغاثة المستضعفين، واقتضت السِّياسة رفضَ الجرائم ومعاقبة أصحابها المعتدين، وتأبى الشَّهامة والمروءة السَّيْر ضدَّ إملاء الضَّمير.
وإنَّ مُلْك هؤلاء إلى زوال، وقد قام ضدَّهم الأبطال من أحفاد الأبطال، في حرب غيرِ متكافئة ضدَّ أفراد من كتائب الطُّغيان، ومن اصطفَّ معهم من المرتزقة المتوحِّشين[6]، يحرقون في زحفهم الأخضرَ واليابس، غير مفرِّقين بين عسكريٍّ مُسلَّح ومدنيٍّ أعزل، مدجَّجين بأثقل الأسلحة وأفتكها، لكن إيمان الأحرار وصِدق قضيَّتهم، قد زوَّدهم بقوَّة معنوية معدومة عند المعسكر الآخر، فإذا بهم بين الكرِّ والفرِّ قد أبلوا بلاءً حسنا، وكشفوا حقيقة الكتائب الَّتي لا تُحسن إلاَّ القصف والرَّمي من وراء الأسوار.
فلن يخذلَهم الله وهم به مستغيثون مستنصرون، كما لم يخذل آباءهم في العزَّة والبطولة، من الَّذين سجَّلوا أسماءهم في التَّاريخ، بحبر الدَّم مخلّدين لها، وكان من بينهم العلماء الأكابر، والفقهاء المبرزون، والمثقَّفون النُّجباء، ولن ننسى رمز ليبيا وأيقونتها في الجهاد: شيخ المجاهدين، والسيِّد الجليل، والفارس المِغوار، عمر بن المختار، الّذي دوَّخ الطَّليان، وكان في مقدِّمة المقاومين لاحتلالهم لليبيا، ومِن أحسن من أُسنِدت إليهم إدارة شؤون الجهاد على أرضها[7].
ورحم اللهُ شاعرَ ليبيا "أحمد الشارف" القائل في إحدى وطنيَّاته:
رَضِينَا بِحَتْفِ النُّفُوسِ رَضِينَـا          وَلَمْ نَرْضَ أَنْ يُعْرَفَ الضَّيْمُ فِينَا
وَلَـمْ نَرْضَ بِالْعَيْشِ إِلاَّ عَزِيزًا          وَلا نَتَّقِـي الشَّرَّ بَـلْ يَتَّقِينَـا
نسألك اللَّهم يا منزل الكتاب، ومجري السَّحاب، وهازم الأحزاب،أن تلطف بأهل ليبيا وتنصرَهم، وتحقنَ دماءهم، وتكبت عدوَّهم، نسألك اللَّهم أن تتقبَّل في الشُّهداء قتلاهم، وتعافي الجرحى وتجبر كسرَهم، ربّنا كُنْ لإخواننا خيرَ معين ونصير فيما أصابهم، واجمع على التَّقوى شملهم، ووحِّد في الخير صفَّهم، وأبدلهم بالخوف أمنًا، وبالشدَّة فرجًا، وبالحزن فرحًا، وبالعسر يسرًا، أنت الإله الرَّحمنُ الرَّحيم، القويُّ العزيز، نعم المولى ونعم النَّصير.
أخوكم محمد بن حسين حداد الجزائري
يوم الاثنين 02 ربيع الآخر 1432هـ،
الموافق 2011/03/07م


[1] وللشّيخ الدّكتور غازي التّوبة مقال بعنوان "اجتراء القذافي على مقدسات الأمة"، ذكر فيه طائفة ممّا أشرتُ إليه من استخفاف القذّافي بالمقدّسات الإسلامية؛ يُمكن الاطّلاع عليه من خلال هذا الرّابط:
www.aljazeera.net/NR/exeres/2FDD0170-FE26-4586-B4E7-8580EB2F9299.htm
[2] من كلام الشّاعر اللّيبي الوطنيّ الملهم "أحمد قنابه"، وهو يبدي تحسّره من أعمال الاستعمار الإيطالي لليبيا.
[3] سورة الرّوم: الآيتان 4 و5.
[4] فقد أيّدهم ووقف في صفّهم خيرة علماء ليبيا، منهم: فضيلة الشّيخ العلاّمة الصّادق الغرياني، وأصحاب الفضيلة الأعضاء بالاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين: الشّيخ ونيس مبروك، الشّيخ علي الصلاّبي، والشّيخ سالم الشّيخي؛ فضلا عن مواقف أخرى من علماء الأمّة في سائر العالم الإسلامي، إزاء أحداث ليبيا، يُذكر من هؤلاء المشايخ العلماء: يوسف القرضاوي، صالح اللّحيدان، عبد الرّحمن البرّاك، سلمان العودة، محمّد الحسن الددو، ناصر العمر، عبد العزيز الفوزان، محمّد العريفي، سعد البريك، وغيرهم.
[5] كما فعلت إحدى كتائب القذّافي بالأخت المحامية "إيمان العبيدي" - مؤخّرا - وهي المنحدرة من مدينة بنغازي، فقد تداول على اغتصابها عند نقطة من نقاط التّفتيش التّابعة لكتائب القذّافي، أحد عشر فردًا من المجرمين، فما كان منها إلاّ أن اقتحمت فندقا بطرابلس تجتمع فيه الصّحافة العالمية الموجودة بالعاصمة اللّيبية، فكشفت الجريمة وفضحت أصحابها، فأحدث خبرها حالة طوارئ بعين المكان، قبل أن ينتشر عبر الإعلام العالمي مقترنا بصور صرختها في الفندق، وهي تشكو من انتهك عرضَها للعالم، كاسرة جدار الصّمت والخوف المضروب على مدينة طرابلس، وحسبها الله ونعم الوكيل.
[6] روى عائدون جزائريون من ليبيا - كما نشرت عنهم صحيفة الشّروق الجزائرية - فترات الرّعب التي مرت عليهم في طرابلس ومصراتة، حيث عايشوا مشاهد هيتشكوكية صنعتها كتائب القذّافي والمرتزقة، كانت أبرزها تلك التي قام فيها أحد الأفارقة بقتل طفل وأكل قلبه أمام مرأى الجميع، على طريقة أكلة اللحوم. وهذا رابط الرّواية كاملة: www.echoroukonline.com/ara/index.php?news=71219
[7] ومن رغب في معرفة المزيد من الأخبار عن هؤلاء الأبطال وغيرهم، فليقرأ: "أعلام ليبيا"، للشّيخ المؤرّخ اللّيبي الطّاهر أحمد الزّاوي.

نُشرت المادّة في ما يلي: موقع الألوكة