5.30.2011

وهبّت رياح الياسمين على ميدان التّحرير


وهبّت رياح الياسمين على ميدان التّحرير


واستمرَّت الرياح في هبتها؛ لتزيل عرشًا آخرَ من عروش الطغيان، وتقطع رأسًا عنيدًا من رؤوس العدوان، فسجَّلت تاريخًا جديدًا للعزَّة والكرامة، والانعتاق من الاستعباد، لَم يكنْ بينه وبين سابقه - في بلاد الزيتونة - إلا بضعة أيام؛ فكانتْ رياحًا سريعة، حقَّقتْ إنجازًا لا مجازَ فيه، وأسقطتْ فرعونًا متشبِّثًا بكُرسيه، تساقط معه كلُّ صاحب دنيَّة، لا يُحسن إلا التزلُّف والتملُّق.
إنها ثورةٌ مصريَّة تميَّزتْ بالانطِلاقة القوية من أوَّل أيامها؛ سواء في سقف المطالب أو كثافة المشاركة؛ ليكون هذا أكبر مميِّز لها عن ثورة الجارة تونس، فشخصت الدنيا ببصرها إلى أُمِّ الدنيا، التي شدَّت العالَم بأحداثها وأخبارها طيلة أيام الثورة؛ لِمَا يعلمه الجميع مِن تداعيات نتاجها وحصادها على المستويَيْن العالَمي والإقليمي.
وجاء يوم الجمعة المُوافِق 11 فبراير 2011م، ليشهد العالم تنحِّي الرئيس المصري "حسني مبارك" على المباشر، عبر إعلان بُثَّ في وسائل الإعلام، امتزجتْ تلاوته بسماع أهازيج استبشار الجماهير المعتصمة في مَيدان التحرير بالقاهرة، وقد كانتْ كلُّ مصر للتحرير مَيدانًا منذ ثمانية عشر يومًا قبل هذا التاريخ، تُميِّزُها التكبيرات والزغاريد، كأنَّ مصر استقلَّت من جديد، وكأنَّا بها عبدٌ انكسَر عنه قيْدُ الحديد؛ فرحة شاركنا حينها إخواننا على أرض الكنانة بقلوبنا وعواطفنا، بعد متابعات للأحداث من أوَّل أيامها.
إنها فرحة بنعمة تستوجِب الحمد: [[ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ]][1].
وحدَثٌ تاريخي يفرِضُ علينا تذكُّر صانعيه بالدعاء: أن يبارِكَ الله في الأحياء منهم، ويكتب لهم ثوابَ ما أنجزوه لأُمَّتهم، وأن يتغمَّد موتاهم بالرحمة والمغفرة، ويتقبَّلهم في الشهداء.
ثم لا ينبغي للشعب المصري أن يغفُل بعُرسه عما ينتظره من تحدِّيات، وهو أهل لها وأجْدر بها، وأعلم بمستقبله منَّا، وإنما هي وصيَّة شعور مشترك في مصير أُمَّة الإسلام إزاء قضاياها -ومصر من أهمِّ المحاور فيها - فقد خلَّفَ نظام مبارك وسابقه مشاريعَ الخِزي ومعاهدات العار، التي مكَّنتْ للدولة السرطانية "إسرائيل" في قلب أرض الإسلام، فثقتنا في إخواننا كبيرة، وآمالنا فيهم معلَّقة بأن يمضوا في طريقهم نحو إتمام النصر واستكمال المشروع، مِن خلال العمل على إبطال تلك المراسيم المخدرة، وإزالة تلك الآثار النجِسة، عندها ينجبر الكسْرُ، ويندمل الجُرْح مِن جميع جوانبه، ويومها يحقُّ لنا أن نطمعَ في اقتِحام البوابة الكبرى نحو القدس، لتُؤدِّي مصر دورها المنشود الذي أدَّتْه تحت راية السلطان الناصر، في زمانٍ كانتْ فيه للشهامة دولة.
ورفْعُ القيود عن المنارة الأزهريَّة أملٌ آخرُ يحدونا؛ لعلَّها تشيع بنورها بعد تغييب، وتتحرَّر فتاويها بعد تقييد؛ فالأزهر رُوح تحيا بها مصر، وقلب يضخُّ معاني الفضيلة فيها، يخضع له السلطان ولا يُخضَع له، ويستنير به الشعب في معرفة ما يقوِّي دينه، ويُقيم دُنياه.
ثمّ إنَّ في الحدَث لدرسًا آخرَ لكلِّ مَن ظلَم في حُكمه ولَم يَعدِل، وطغَى ولَم يعقِلْ، عليه أن يرجع إلى الحقِّ، وينظر في حال رعيَّته، ويسوسهم بما يحفظ دينَهم ودنياهم، ويؤدِّي حقوقهم، ويلبِّي حاجاتهم، إذا أراد لِمُلكه استقرارًا، فهم أمْنه وحَرَسه، إذا كان فيهم بمثابة الوالد الحريص على أبنائه.
نسأل الله باسْمِه الأعظم، الذي إذا سُئِل به أعطى، وإذا استغفر به غَفر، وإذا استُرحِم به رحِمَ، أن يُبدِّل إخواننا في مصر بالخوف أمنًا، وبالضِّيق مخرجًا، وبالهمِّ فرَجًا، وبالحزن فرحًا، ونسأله - سبحانه - أن يعيذَهم من الكفر بعد النعمة، وأن يبعدَهم عن أسباب الشر والنقمة، وأن يوحِّد كلمتهم على الهدى، ويجمع قلوبَهم على التقوى، وأن يُحسِنَ لهم الحال والمآل.
أخوكم محمد بن حسين حداد الجزائري
يوم الأحد 10 ربيع الأوّل 1432هـ،
الموافق 13 فيفري 2011م
نُشرت المادّة في ما يلي:: موقع الألوكة


[1]  سورة الأنعام: الآية 45.