8.21.2012

حَوْلَ قَرَارِ الظُّهُورِ بِغَيْرِ خِمَارٍ عَلَى صُوَرِ الَوثَائِقِ البْيُومِتْرِيَة

حَوْلَ قَرَارِ الظُّهُورِ بِغَيْرِ خِمَارٍ عَلَى صُوَرِ الَوثَائِقِ البْيُومِتْرِيَة

طَلَعَت علينا وسائل الإعلام مُؤخّرًا بخبرِ فصْلِ وزير الدّولة الجزائرية ووزير الدّاخلية والجماعات المحلّية، في الجَدَلِ الدّائر حول نَزْعِ خِمار المُحجَّباتِ في الصّورةِ التي يحويها جَوازُ السّفر وبطاقةُ التّعريف الوطنية البْيومِتْريان والإلكترونيان؛ وذلك بإعلانِه - كما جاء في الخبر المُشار إليه - ضرورةَ نَزْعِ الخِمارِ حتّى تكون الصّوَرُ "واضحةً ومُحترِمةً للقوانين والمُعطيات الدّولية"، المُمْليَةِ بضرورةِ ظُهور الأذُنَيْنِ ومُقدّمةِ الرّأس. وقد تعرَّضَ القرارُ إلى اللِّحية كذلك، بنَصِّه على ضرورةِ ظُهورِ صورة الرَّجل حليقَ اللِّحيةِ أو مُخفِّفًا لها على تلك الوثائق.
لا أَخالُ جزائريًّا لم يفرحْ ويستبشرْ خَيرا، وهو يسمعُ عنْ عزْمِ دولتِه على انْتقالها في مجالِ بطاقاتِ الهُوِيَّةِ وجوازات السّفر، بما يُواكبُ التطوّرَ العالمي الّذي قطعَ شوطًا كبيرًا في هذا المجال، فرحةٌ واسْتبشارٌ سُرعان ما تَعكَّر صفْوهُما، وقد غيَّمَ على البَهْجةِ أمْرٌ يَطعنُ هُويّة الجزائري في وثائقِ هويّتِه!
مَن يقرأُ جُملةَ "الجمهورية الجزائرية الدّيمقراطية الشّعبية" تعلو كلَّ وثيقةٍ رسميةٍ جَزائرية، سواء جَماعية كانت أو فردية، يتذكَّرُ عند التأمُّلِ فيها، نعمةً عظيمةً قد حبانا الله - عزّ وجلّ - بها بعد مُعاناةِ قَرنٍ ونِصفٍ مِن الزّمان، وما كُتبَ على صفحاتِها مِنْ حِكاياتٍ وقصصٍ عن تَضحياتِ شَعبٍ ليس كبقيةِ الشّعوب، بحبْرِ دماءٍ وعَبَراتٍ رَسمَت الإشراقَ على هذا البلد قبل أنْ تَطْلعَ شمسُه، ومسحتِ الظَّلامَ لتستغني عنْ قمرِه، كلُّ هذا تحت شعارَيْ الإسلامِ والوطنيةِ الّلذيْن سَجّلاَ كلَّ مراحلِ المُقاوماتِ الجزائريةِ وما تلاهَا مِنْ ثورةٍ مُباركةٍ تمخَّضَ عنها الاستقلال.
فأيُّ قوانين مِثل هذه القوانين نَحترم، ونحن أصحابُ السّيادةِ في صِناعة القانون؟ وأيُّ معطَياتٍ مِثل هذه المعطيات نُراعي، ونحن الأجدرُ بأنْ تراعينا المُعطَيات؟!
نعم؛ النِّظامُ العالميُّ تَغيَّرت مَعالمُه وتَبدَّلت مَلامحُه، حتّى أصبحَ شبه القَريةِ الواحدة - كما يُقال - ولسنا نَشازًا في هذا العالمِ حتّى نشُذَّ عنه، وقد أصبحت الظُّروفُ فيه تُحتِّمُ على كلِّ جارٍ أنْ يَحترمَ جارَه، لكنْ هذا لا يقتضي أنْ ينْصهرَ كلُّ فردٍ ويذوبَ فيما يُمليه الآخر، وإنَّ مِنَ الاحترامِ للذّاتِ قبْلَ الاحترامِ للغير، أنْ نَحترِمَ هويَّتَنا وخُصوصيتَنا التي ما كان لنا فيها اخْتيار، لولا فضلُ اللهِ ثمّ تَضْحياتُ الأبطالِ الأشاوس.
وإنْ شَمَل القرارُ مَوضوعَيْ الحِجاب واللّحية؛ إلاّ أنَّ الأمرَ الأوّلَ أشدّ وَقْعًا على النّفسِ بما لا يَحتاجُ إلى تفسير، فإنَّ العِرضَ لنْ تَقدرَ الكلمات على التّعبيرِ عنْ حجمِهِ وقدْرِهِ عند أهلِ الإسلامِ عمومًا والشّعبِ الجزائري خُصوصًا، والحَديثُ حول الحجابِ في هذا السّياقِ يُغني عن الحَديث حول اللّحية، ذلك أنَّ الردَّ عن الأوّلِ فيه غٌنية للردِّ عن الثّاني، لوُقوعِ الاشتراكِ كما سيأتي.
إنَّ مثلَ هذا القَرار لا يَتردّدُ أيُّ فَردٍ جزائريٍّ يَستظلُّ تحت مِظلّةِ (الجمهورية الجزائرية الدّيمقراطية الشّعبية)، وما يَنصُّ عليه دُستورُها مِنْ انْتسابِ الدّولةِ الجزائرية إلى الإسلام واحترامِها لخُصوصية هذا الشّعب وهويَّتِه، في الحُكمِ على فَسادِ هذا القرار، مع ما يُحيطُه مِن الْتِباسٍ ويَكتنِفُه مِن غُموض مِن عِدّةِ أَوجُه:
الوجه الأوّل: مخالفةُ هذا القرارِ الصّريحة للدّستورِ الجزائري الذي تَنصُّ بعضُ بنودِه على إسلامِيَةِ دينِ الدّولةِ الجزائريَّة - كما أَشَرتُ - وقد شرعَ الإسلامُ الحِجابَ للمرأةِ وأَمرها بالسِّتر، في أكثر مِن آيةٍ قرآنيةٍ وحديثٍ نبويّ، وهذا لا يَجهَلُه أحد.
الوجه الثّاني: لم يَأخذ القرارُ حقَّه مِنَ النِّقاش والدّراسة، رغم حَساسيتِه وخُطورتِه وأبعادِه التي لا تَخفَى على أَحد، لاسيما وأنَّ أغلب الجَزائريات مُتَحجّبات كما هو معلوم؛ وليس بالضّروري أنْ يكونَ الطَّرفُ الثّاني في النِّقاش والدِّراسة إسلامِيًا خالصًا؛ بل تنوّعُ الأطرافِ مِنْ خلال اختيارِ النُّخبَةِ الواعيَةِ فيه بشَتَّى اتِّجاهاتِها، كان يُمكنُ أنْ يَصلَ بالأمرِ إلى قَرارٍ أسْلَم.
الوجه الثّالث: نَتيجةُ القرار هي التّماشي مع مُعطيات بعض الدّول وليس المراعاةُ لواقعٍ دُوليٍّ مُوحّدٍ إزاءَ هذا الموضوع؛ وإلاّ فإنّ ظهورَ المرأةِ بحِجابها على مثلِ هذه الوثائق، مسموحٌ به في عدّة دُولٍ غَربِيةٍ وأوروبيةٍ دون إِشكال، ويُؤكّدُ هذا ما وَرَدَ عنْ الهيئةِ الدّوليةِ للطّيرانِ المدني (OACI) ما يَحثُّ المائة والثّمانية والثّمانين دولةً عضوًا فيها، على ضرورةِ ظهورِ الصُّورِ واضحةِ المَلامحِ في وُجوهِ أصحابِها على جوازاتِ السَّفر البيومترية، دون أنْ تُشيرَ إلى غيرِ صفحةِ الوجه؛ وهذا ما الْتَزمتْه مصلحةُ الجَوازات في بريطانيا (UKPS)، وهي مِنَ الدُّولِ الرّائدةِ في هذا المجال.
كما جاء كلُّ هذا مُتّفقًا تمامَ الاتِّفاقِ مع المقاييسِ الحَيوِيَة (La biométrie) والمَعاييرِ الّتي وصل إليها المختصّون في تكنولوجيا الأمنِ والدّفاع، الّتي تنصُّ على إمكانية تَشخيصِ الفَرْد مِن خلال بصماتِ كلٍّ مِنَ الأُصْبُع، اليَد، والعَيْن، وزادَ بعضُهم الأَنْف، دون غيرِها مِنَ الأجزاء، كشَعْرِ الرّأسِ واللِّحية.
الوجه الرّابع: إلزامُ المرأةِ بظُهورِها بغيْرِ خِمارٍ على هذه الوثائق، ذريعةٌ إلى إلزامِها بنَزعِه كذلك عند مُطالبتِها بعَرْضِ الوثيقة؛ وإلاّ فإنَّ الاختلافَ بين الصّورةِ والحقيقةِ ظاهرٌ لكلِّ ذي عَيْنَيْن بِناءً على القَرار، فأيُّ الاخْتِيارَيْن أكثر مَنطِقِيّة؛ تَوافُقُ الصُّورةِ مع واقعِ صاحبتِها، أم نُكرانُ أحدِهِما للآخر؟!
الوجه الخامس: أصباغُ الشّعر، وأنواعُ تصفيفِه، ومَساحيقُ الوجه، يُمكنها أنْ تُغيِّرَ المَلامحَ وتَسيرُ في معنى تَضليلِ معرفةِ الهُوِيَّة أكثر مِنْ وَضْعِ الخِمار - إذا اعتبرنا وجودَه مُؤثِّرًا -، وإلاّ فإنّ التّشديدَ على الظّهور بالتّلوينِ والتَّنويعِ على ذلك النَّحو، أولى مِنَ التّضييقِ على خِمارٍ يَزيدُ الوَجهَ وُضوحًا.
الوجه السّادس: الاختياراتُ في الموضوعِ كثيرة، والتّوفيقاتُ بين الموقفِ الشّرعي والحلِّ الأمني مُمْكنة - كما ذكرت جمعيةُ العُلماء المسلمين الجزائريين -، فلماذا نختارُ أَضْيَقَ المِساحاتِ وأعْوَجَ السُّبلِ عند تناولِنا لمسألةٍ تَجاوزَها إيجابيًّا مَنْ هم أولى بعدمِ تجاوزِها؟
هذا؛ وأتمنّى والتّفاؤلُ يملأُ قلبي، أنْ يكونَ الأمرُ الّذي جَرى عليه تعليقي، مُجرّدَ قرارٍ غيرِ مَحسوم، وإلاّ فالأملُ قائمٌ في كلّ الأحوالِ على مُراجعتِه، والمُراجعةُ بما يَخدِمُ البلدَ ويُراعي انْتماءَه لَتَزيدُ مِنْ قَدْرِ المُراجِع، لاسيما وقد رَأيْنا مِنَ الوزارة المَعنِيَةِ الكثيرَ ممّا يُشكرُ ويُحمَدُ منها، فالجُسور الجُسور بين الحاكمِ والمَحكوم.
أسأل اللهَ العَليَّ العظيمَ أنْ يرزقَ حُكّامنا السّداد، ويأخذَ بأيديهِم إلى الهُدى والرَّشاد، ويزيدَهم تَوْفيقا، ويَجعلَ لهم الحقَّ رفيقا.
أخوكم محمد بن حسين حداد الجزائري
ليلة الخميس 16 ربيع الآخر 1431هـ،
الموافق 01/04/2010م