5.15.2020

تَحْذِيرُ الإِخْوَةِ والآبَاءِ مِنْ أَضْرَارِ الوَهْمِ عِنْدَ وُقُوعِ الوَبَاءِ

تَحْذِيرُ الإِخْوَةِ والآبَاءِ مِنْ أَضْرَارِ الوَهْمِ عِنْدَ وُقُوعِ الوَبَاءِ
قيل أنَّ طاعونًا مَرّ برجلٍ فسأله هذا الأخير: إلى أين أنت ذاهب؟ فأجابه قائلاً: أنا ذاهبٌ إلى البلد الفلانيّ لأُهلِك مِن أهلِه خمسة آلاف نَفسٍ قد أُمرتُ بإهلاكِها؛ ثمّ ماتَ مِن النّاس في ذلك البلد بالطّاعون خمسون ألفًا؛ وبعد مدّةٍ رجع الطّاعون فمَرّ بالرّجل، فقال له: إنّك كذَبْتَني! أخبرتَني أنّك ستقتل مِن ذلك البلد خمسةَ آلاف نفس، بينما قد قتلتَ خمسين ألفًا! نظرَ الطّاعونُ إلى الرّجلِ، فوقف وقال: إنّما قتلتُ خمسةَ آلاف، أمّا الباقون فقد قتلهم الوهم...
هي أسطورةٌ تُحكى، استهللتُ بها مقالي هذا؛ لأنبّه إلى حقيقةٍ خطيرةٍ يجهلها الكثير أو يغفلون عنها، فكان التّذكيرُ بها مُهِمًّا جدًّا؛ ألا وهي تأثير الحالات النّفسية السّلبيّة المرتبطة عادةً بمشاعِر التوتُّرِ والقلقِ والخوف، على حياة الإنسان الصحيّة.
وما اخترتُ الكتابة في هذا الموضوع إلاّ لتأكّدِ ضرورتِه بعد اسْتفحال وباء فيروس كورونا (CORONAVIRUS) وانتشارِه عبر العالم، والرّعب الّذي صنعه في عموم الشّعوب الّتي أصبحت ترى الفيروس المستجدّ (COVID-19) يفتك بصحّة مئات الآلاف مِن البشر؛ بل ويحصد أرواحَ الكثير يوميًّا، بعد عجز المستشفيات عن استيعاب الأعداد الضّخمة مِن الحالات، فضلا عن تهديدِه لدولٍ متطوّرةٍ في اقتصادِها وأمنِها بعدما شُلّت معاملاتُها وأصبحت معزولةً عن بعضها البعض؛ ويكفي أحدَنا أنْ يفتحَ قناةً مِن القنوات الإعلاميّة باختلاف لغاتِها وأنواعِها، ليرى الحروف والأرقام تحكي الواقعَ المؤلم!
أضفْ إلى المأساة آثارُها في النّاس مِن جهة التشوُّش الّذي يُحدُث في أنْفُسِهم توتُّرًا وقلقًا تتضاخم منه المخاوف كلّما طالت الأزمة بأرقامها المَهُولة...؛ وربّما تطوّر الأمر إلى مُشكلةٍ أمنيّةٍ على المستوى الجماعي كما عايشناها وعاينّاها في بلدانٍ كثيرة؛ أين وقع الهلعُ على المستوى الشّرائي خوفًا مِن نقص الموادِ الضّروريّة في الأسواق، فانْقادَ الشّعور بالتّهديد إلى عقلٍ جمعيٍّ فتحَ باب الغضب على الحكومات عمومًا والقائمين على القطاع التّجاري والطبّي خُصوصًا..؛ وهكذا يكون أثر الوباءِ قد تجاوزَ حدًّا يفرِضُ كلّ هذه الاحتياطات.
فكان مقتضى الطّبيعة والفطرة الّتي فُطر عليها الخلْقُ -جميعُهم- مِن ربِّهم وخالقِهم، أنْ يخاف النّاسُ مِن هذا الوباء ويُحاذروه، وهم يرونَه مُهدّدًا لحَياتِهم ومُفنِيًا لأحبابِهم ومُزعزِعًا لأمنِهم على كلّ المستويات؛ بل إنّ لهذا الخوف الطّبيعي فوائد تكشف حِكمةً مِن حِكمِ جعلِ الله -سبحانه- لها غريزةً مركوزةً في النّفوس، فهو -كما يقول خبراء الاجتماع-: "يُستثار بسبب وجود خطرٍ خارجي يُدركه الفرد، فيولّد عنده الشّعور بالخطر، أو لأجل التعلّق بالمجهول، عندها يكون الإنسان عُرضةً للخيال والشكّ، ولا شكّ أنّ هذا النّوع مِن الخوفِ طبيعيٌّ وضروريٌّ لحمايةِ الفرد ودفعه نحو العمل والسّلوك النّافع...، فمَن خاف البرْدَ لبِس الثّياب الثّقيلة، ومَن خاف مِن الجوع بادر إلى الطّعام، ومَن خاف العدوّ حصّن نفسه واستعدّ للقائه، وهكذا دواليك"[1].
ومِن هذا المنطلقِ كانت هذه الجهود الجبّارة المُضنِية السّاعية في طلبِ النّجاة ودفعِ الهلاك؛ مِن خلال بذلِ ملايير الدّولارات في دعمِ البحوث الرّامية إلى اختراع الدّواء أو اكتشافِ اللّقاح الّذي يضع حدًّا لهذا الوباء؛ وإنشاءِ تنظيماتٍ علاجيةٍ تُعزّزُ المستشفيات بالأجهزة الطبيّة الضّروريّة، وتفرضُ حَجْرًا صحّيًا عامًّا بمختلف درجاتِه وقايةً لملايين البشر مِن انتقال العدوى بينهم؛ ورسمِ سياساتٍ اقتصاديّة دقيقةٍ تُقلّلُ الخسارتِ الكبرى النّاجمة عن غلق الحدود البريّة والجويّة بين الدّول والقرّات...
لكنْ ثمّة خوفًا زائدًا مبالَغًا فيه، يُخالفُ الطّبيعة الضّروريّة الّتي خُلق عليها البشر؛ وهو حالةٌ نفسيّة قد أصابت الكثير في وقتِنا -للأسف الشّديد-، حتّى وجدنا مَن يتعامل مع واقع الوباء تعاملَ واهِمٍ قد أظْلمَت دنياه وخلَت مِن نورِها، ومرعوبٍ مُترقّبٍ طَرْقَ هلاكٍ يترصّدُه؛ فكأنّ المصيبةَ تسكُنُ داخلَه بين أحشائِه لا يكادُ يُفارُقُ وساوسَها حتّى ينقادَ لزمامِها مرّةً أخرى!
ولا أُبالِغ لو قلتُ: إنّ محنةَ هؤلاء بحالتِهم، قد تكون أشدّ على أنفسِهم مِن عدوى الفيروس لو أصابتهم؛ وقد قيل: إنتظارُ المحنة أحيانًا أعظم من وقوعها. ولو انْحصرَت معاناةُ هؤلاء في الجانبِ النّفسي وانتهت إليه، لهان الأمر ولم تُعطى لحالتِهم اهتماماتٌ تكادُ تكون موازيّةً للاهتمام بالمرضِ الفتّاكِ نفسِه؛ لكن قد تقرّر طبيًّا بناءً على دراساتٍ علميّةٍ ووقائِع مجرّبة، أنّ الحالات المُفرِطة مِن الخوفِ والقلقِ والتوتّر، وغيرِها مِن المشاعر السّلبية المتوّلدة عن الوقائع المُبالغِ في التّعامل معها، أو الأوهامِ النّاتجة مِن نسْجِ الخيال؛ هي أشياءٌ تُؤثّرُ على المناعة فتُضعفها إضعافًا قد ينتهي بالجسم إلى الهلاك[2].
يقول الإمامُ ابن قيم: "ولا ريب أنّه قد يكون في البدن تهيّؤٌ واستعدادٌ كامن لقَبول هذا الدّاء، وقد تكون الطّبيعةُ سريعةَ الانْفعال قابلةً للاكتساب مِن أبدانِ مَن تُجاورُه وتُخالطُه، فإنّها نَقّالة، وقد يكون خوفُها مِن ذلك ووهمِها مِن أكبر أسباب إصابةِ تلك العِلّة لها، فإنّ الوهمَ فعّالٌ مُسْتَوْلٍ على القوى والطّبائع"[3].
ويقول الدّكتور مأموم مبيض -إستشاري الطبّ النّفسي-: "يُمكن لاشتغال البال والتّفكير الدّائم بالأمور السّلبية، ومنها: المرض والخوف منه أو توهّمه، أنْ يُضعف جهاز المناعة للجسم، فقد أثبتت الدّراسات العلاقة الوثيقة بين النّواحي النفسيّة والنّواحي الجسديّة، فالأفكار والمشاعر السّلبية تُضعف جهازَ المناعة ومقاومةَ الجسم، كما أنّ الأفكار والمشاعر الإيجابيّة تُقوّي مِن هذا الجهاز. والمشكلة ليست فقط أنّ توهم المرض يُضعف المناعة، ولكنْ نَقصَ المناعة يزيدُ في حالةِ توهّم المرض؛ مما يُدخل الإنسانَ في حالةٍ مِن الدّائرة المعيبة، والّتي عليه كسرها"[4].
والّذي يعلمُه الكثير ولا بدّ مِن التّذكيرِ به والتّنبيه إليه؛ أنّ المناعةَ لها دورٌ خطيرٌ للغاية؛ فهي -كما يُقرّره الأطبّاء وعلماء الخلايا والفيروسات- تَضمَن للجسم الحمايةَ ضدّ المرض أو مسبّباته؛ فإنّ الجهاز المناعي باستطاعتِه إصلاح خلايا الجسم من الدّاخل إذا لحقها ضررٌ ما، متى كان الجهازُ سليمًا قويًّا[5]، سلامةٌ وقوّةٌ تُيسِّر له التّواصل بشكلٍ مباشر مع المخّ ليعمل بشكل صحيح فيستطيع الدّفاع عن الجسم.
فهذا الجهازُ هو الخطّ الدّفاعي الأوّل للجسم ضدّ الفيروسات والبكتيريا؛ حيث يتولّى كبحَ الالتهابات والعدوى الّتي تُهاجمه، وعند استسلام الشّخص لمشاعِر القلقِ والتوتّر والخوف ثمّ الدّخول في دوّاماتِها، يقلّل ذلك في جسمِه مِن قوّة الجندي (الجهاز المَناعي) المكلَّف بمقاومةِ الأعداء (الأمراض) الّتي يتعرّض لها جسم الإنسان، فيُصبح فريسةً أمام الفيروسات والميكروبات بعد ضُعفِه[6].
وتبيينًا لكيفيّة تأثير تلك الحالات السّلبية على مناعة جسم الإنسان؛ يذكر أهل الاختصاص أنّ الجهاز المناعي يَضعُف مِن خلال زيادة الجسم في إنتاج هرمون الكورتيزول (Cortisol) الذي يُعارض عمل الجهاز؛ إذْ أنّه يمنع إطلاق المواد الّتي تُسبِّب الالتهاب، ويؤدّي إلى خفض كمية البروتينات الّتي تحفّز الخلايا المناعيّة للدّفاع عن الجسم ضدّ أيّ عدوى، ممّا يقلّل من كفاءة الجهاز المناعي؛ فيُصبح الشّخص عُرضةً للإصابة بالعدوى أكثر مِن غيره، بعد ضُعف استجابةِ جسمه المناعيّة الطبيعيّة؛ وأيضا تتأثّر الخلايا اللِّمفاويّة (Lymphocytes) الموجودة بالجسم، والّتي لها دورٌ فعّال مِن حيث مكافحةِ العدوى والقضاء على الالتهابات التي تواجه الجسم، ممّا يقلّل كفاءة الجهاز المناعي، ويجعل الجسمَ يستغرق وقتًا أطول في التّعافي.[7]
أمّا الآثار الظّاهرة لهذه الحقيقة على جِسمِ الإنسان، فهي بيتُ القَصيد والهدفُ مِن كتابتي لهذا المقال؛ فإذا اسْتَوْعَبْنا دورَ الجهاز المناعي في جسمِ الإنسان وضرورةَ حِمايتِه مِن المُؤثّرات المُضعِفة له، سَنَسْتوعِبُ حتمًا آثار اخْتلالِ هذا الجِهاز وقلّةِ كفاءتِه على الجِسم؛ وقد تلخّصت تلك الآثار في أمرين اثْنين: حُدوث الأمراض والأدواء والأسقام، وتأخُّرُ الشّفاء مِنها أو قلّةُ نسبةِ امكانيّتِه أو انْعِدامه.
وفقًا للدّكتور سامي الطحّان -استشارى المناعة بمستشفى الحسين الجامعى، وزميل الأكاديمية الأمريكيّة للمناعة-؛ فإنّ التوتّر والقلق والضّغوط النّفسية تُصيب الإنسان بالأرق والنّوم المتقطّع، وهذا يؤثّر بصورةٍ مباشرة على الجهاز المناعي؛ ممّا يصيب الإنسان بضغط الدمّ واضطرابٍ في ضربات القلب، وأحيانًا تصل الحال إلى أمراض القلب وتصلّب الشّرايين والذّبحة الصدرية، فضلاً عن التّأثير على الجهاز الهضمى وحدوث اضطراباتٍ في القولون، حتّى أنّ في بعض الأحيان قد يصل الحال إلى وجود قرحٍ في المعدة؛ كما أنّه يُصيب الإنسان -في بعض الأوقات- بالصّداع والشّعور بدوارٍ وطنينٍ في الأذن وضيقٍ في التنفّس وشللٍ في التّفكير وآلامٍ في الظّهرِ والرّقبة؛ كما له تأثيرٌ واضح على الجِلد، فيُصيب الإنسانَ ببُقعٍ زرقاء أو هرْش أو حبوب الشّباب؛ وأحيانًا يتفاقم الأمر فيُصابُ الإنسان بمرض الصّدفية الذي يصعب علاجه في بعض الأحيان.[8]
ولمّا كانت المصيبةُ تجرّ أخواتها عادةً، لزِم التّحذير والتّنبيه -تبعًا- إلى ما يُقرّره أطبّاء العالَم، مِن أنّ التعرّض للكثير مِن الأمراض -لاسيّما المُزمِنةِ مِنها كأمراض القلب والأوعية الدّموية والسّكري-؛ يجعل المُصاب بها أكثر عرضةً للإصابة بالعدوى مِن غيره.
وعليه؛ فإذا كانت نتائج الحالات النّفسية السّلبيّة بهذه الدّرجة مِن الخطورة على صحّة الإنسان وحياتِه؛ تأكّدَ على الواعي تأكُّدًا ضروريًّا اجْتناب الاستسلام لدواعِي تلك الحالات والاجتهاد في دفع أسبابِها، أمام فيروسٍ قاتلٍ أعلنَت منظّمة الصحّة العالميّة أنّ أخطر ما فيه هو سرعة انتشارِه! ونحن نرى جائحتَه أضحت وباءً عالميًّا مُهلكًا للأبدان وحاصدًا للأرواح، بهذا الشّكل الّذي نعيشه واقعًا على مَدارِ اليوم واللّيلة.
ولا بأس أنْ أستعرضَ فيما سيأتي، جملةً مِن النّصائح والوصايا الّتي تُساعد على التّعامل السّليم مع مشاعِر القلق والتوتّر والخوف، بما يدفَع أسبابَها ويسدُّ مداخلَها -بإذن الرّحمن-؛ وإنّ التزامَها والأخذَ بها لكفيلٌ بدفعِ الهلاك وتقليل آثارِه، والله المُستعان...
النّصائح والوصايا:
1/ الإيمانُ بالقضاءِ والقَدرِ: فإنّ مِن صميمِ عقيدة المُؤمنِ إيمانُه بأنْ لا شيء مِن الكوائنِ والحوادِثِ يكون في العالمَين إلاّ بقضاءِ الله وقدرِه؛ لقولِه -تعالى-: [[إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ]] (القمر: 49)، وقولِه -عزّ وجلّ-: [[مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ]] (الحديد: 22)؛ وأنْ لا شيء يكونُ إلاّ بعِلْمِ الله وأَمْرِه، وبأنَّ له الحكمةَ البالغة في تقديره؛ فإنّما يبتلي عبادَه ويمتحنُهم بالخيْرِ والشرِّ ليرجِعوا إلى ربّهم؛ قال -سبحانه-: [[وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ]] (الأعراف: 168)، وقال -جلّ وعلا-: [[فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا]] (الأنعام: 43).
فإذا عَلِم العبد هذا؛ لم تُيْئسْه المصائب ولم تُجْزعْه المِحَن؛ بل واجهها بقلبٍ مُطمئنٍّ ثابت، مُلتجئًا إلى مَن لا يَكْشِفُ الضُّرَّ إلا هو؛ قال الله -تعالى-: [[وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]] (الأنعام: 17)، وقال -سبحانه-: [[ أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ، أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ]] (النّمل: 62)، وقال -عزّ وجلّ-: [[وأيُّوبَ إذْ نادَى ربَّه أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ * فاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ ومِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدَنَا وذِكْرَى لِلعَابِدِينَ]] (الأنبياء: 83-84).
2/ الابتِعاد عن مصادِر المعلومات المغلوطة والشّائعات المُفزِعة: وعلى رأس هذه المصادِر، بعض قنوات الأخبار والشّبكات الاجتماعيّة عمومًا؛ لا سيّما بالنّسبة لأصحاب الشّخصيات القلِقة والمُتوتّرة لأدنى الأسباب، فمِثل هؤلاء يُنصح بابتعادِهم عن عموم المصادِر في ظلّ الوباءِ مهما كانت درجة مصداقيّتها، أو يُكفّ -على الأقلّ- عن العكوف على متابعتِها باستمرار[9]؛ ويدخل في هذا المعنى -أيضًا- أولئك الأشخاص السّلبيون أصحابُ النّظرات السَّوداوية الّذين يَبثّون الخوفَ والإحباط في النّفوس، فهؤلاء يجب الابتعاد عن دائرتِهم.
"قد تكون الشّائعات الأمر الأكثر إضرارًا بالصحّة النّفسية للنّاس، لذا يَكمُن حلّ تّشوُّش المعلومة والاضطراب النّفسي الحاصل مِن الشّائعات في التأكّد مِن مصادر موثوقة كالسّلطة الطبّية في الدّولة أو منظّمة الصحّة العالميّة؛ فالأشخاص الذين يَتشوَّشون في هذه الظّروف هم من تَنقُصهم المعلومة الطبيّة، فتكون مخاوفُهم مبالغةً بالنّسبة لحجم التّهديد... لكن الشّعور بالقلق بشكلٍ مُتناسبٍ مع الخطورة البسيطة والواقعيّة للفيروس، هو أمرٌ مقبول. وينبغي التّأكيد على أنّ متداولي الشّائعات أكثر عُرضةً للخطر؛ حيث يقعون فريسة الخوفِ المبالَغ فيه، أو اتّباع إجراءاتٍ صحيّةٍ غير معتمدةٍ طبيًّا وغير موثوقة"[10].
3/ العمل بالإجراءات الرّسميّة والنّصائح الوقائيّة: فإنَّ ثمّة إجراءاتٍ رسميّةٍ تمّ اتّخاذُها ونصائحَ صحّيةٍ تمّ بذلُها، مِن أجل الحدّ مِن تفشّي المرض والوقايةِ منه والعِلاج للمُصابين به؛ وجبَ التزامُها واحترامُها والأخذُ بها مِن طرفِ الجميع، بشكلٍ يعكِسُ الشّعورَ بالمسؤوليّة اتّجاه الذّات والمحيط والأمّة؛ وأيُّ مخالفةٍ لها أو خروجٍ عن إطارِها بشتّى الحججِ ومُختَلَفِ المبرِّرات الّتي يَختلقُها أصحاب الفتنةِ والقلوب المريضة، فيتبنّاها أهلُ الغَفلةِ والعقولِ الصّغيرة؛ سيفتَح باب الفوضى ذات العواقِب الوَخيمة على صحّةِ النّاس، فيَتفاقَم القلَق ويتعاظَم الارْتباك في أوساطِهم -لاسيّما لدى أصحاب الشّخصيات المُوسوَسَة والضّعيفة نفسيًّا بالأصالة-؛ بعد التّشكيك في صحّة الإجراءاتِ وفقدِ الثّقة في النّصائح؛ إنّه توجُّهٌ تُغذّيه طبيعةُ الخوفِ مِن المجهولِ أكثر مِن المَعلوم.
فكان الارْتيابُ حول نسبةِ خطرِ الفيروس -نفسه- والطّرقِ العلاجيّةِ المعمولِ بها مع المصابين به، والارتيابُ حول إلزاميّةِ الحَجْر الصحّي الّذي ضاق به البعض ولم يصبِرْ عليه، والارتيابُ حول  مصداقيّةِ الأرقام المُعلَنةِ عن عدد الإصاباتِ والوفايات بالفيروس، والارتيابُ حول قراراتِ منعِ الأسْفار وتعليقِ الجُمَع وإغلاقِ المدارس ونحوِها مِن محلاّتِ اجتماعِ النّاس؛ بل الارتيابُ مِن الحاضرِ والمستَقبلِ ومِن كلّ شيء! وإنّ السّلامةَ مِن هذه الوساوِسِ المُؤثّرة سلبًا على أرض الواقع؛ هو في سدّ مداخِل شيطانٍ يُبشّر بالخيْبةِ ويَعدُ بالهلاك، ثمّ في العملِ بإجراءاتٍ رسميّةٍ ونصائحَ وِقائيّةٍ يقفُ خلفَها أهلُ الخبرةِ والاخْتصاص في الميدان الصحّي.
4/ عدم التّركيز على موضوع (كورونا): لا بدّ مِن الاهتمام بموضوع الوباء العالمي مِن جهةِ الحِرصِ على تلقّي المعلومةِ الصّحيحةِ المُتعلِّقة بمحاذيرِه وأساليب دفعِه ووسائِل رفعِه، طلبًا لحمايةِ النّفس والمجتمع مِن خطرِه الفتّاك -لا سيّما مع غيابِ العلاج واللّقاح الضّامِن للشّفاء والوقاية منه لغايةِ الآن-؛ أمّا المبالغةُ في التّفكير حول موضوعِ الفيروس حتّى يتحوّل إلى قضيّةٍ تأخذ حديثَ المرءِ في اللّيل والنّهار، ينامُ به ويُصبح عليه! فهذا ممّا يزيدُ مِن نبضاتِ القلبِ وجرعاتِ الخوفِ، و يَجعلُ الوُجدانَ مسكونًا بسلبيّةٍ مُشلّةٍ للنّشاط قد يصعُب التخلّص منها في المستقبل؛ لكنّ البديلَ المنصوح به، هو الانْشغال عن ذلك بمَلْءِ الفراغِ وممارسةِ الحياةِ العاديّة غير المُتجاوِزةِ للحدِّ المفروضِ واقعًا؛ مِن ذلك: القيامُ على حاجيّات الأسرة ورعايةِ الأبناء، التّواصلُ مع الآخرين عبر الوسائل التّكنولوجيّة الحديثة، قراءةُ الكتُبِ والاسْتماع إلى المحاضرات العِلميّة، مشاهدةُ البرامج المتنوّعة النّافعة، ممارسةُ الرّياضة والتّرفيهُ بمختلف المُباحاتِ مِن الهوايات المُفضّلة...
5/ حُسنُ إدارةِ انْفعالاتِ الغَيْرِ في ظلِّ الأزمة: تنصحُ الدّكتورة سماح جبر -الطّبيبة النّفسيّة ورئيسة وِحدة الصحّة النّفسيّة في وزارة الصحّة الفلسطينيّة- قائلةً: "بالنّسبة للأطفال، مِن المهمّ أنْ تتمّ توعيتُهم بعباراتٍ لا تُخيفهم وتَتناسب مع مستواهم العقلي، وأنْ لا يُظهرَ الوالدان القلقَ أمام أولادهم وعدم التحدُّثِ الزّائد عنْ الموضوع؛ وهذه فرصةٌ أيضًا لتوعيّتهم حول النّظافة الشخصيّة، ومَلءِ أوقاتِ فراغهم جيّدًا، مع مراعاة عدم انْقطاعهم عن التّعليم لمدّةٍ طويلة، وأنْ لا يبقى الطّفلُ حبيسّ المنزِل، أيضًا يجبْ أنْ يتعرّض للهواءِ والشّمس تحت الإشراف بعيدًا عن أيِّ أطفالٍ مرضى.
أما المُسنّون فيَكادون يكونون أكثر رقّةً مِن الأطفال، ولديهم هشاشةٌ صحيّةٌ ونفسيّة أعلى مِن غيرهم، لذلك مِن المُهمِّ البقاءُ بالقربِ منهم والتّواصل معهم، مع الحرصِ الشّديد على عدم نَقلِ العدوى لهم، ودَعمُهم مِن النّاحية المعنويّة والصحيّة بما فيها مِن تغذيّةٍ ورياضةٍ وتهويّةٍ جيّدة، والاهتمامُ بظهورِ أيّ أعراضٍ مرضيّة حتّى لا تتأخرّ الرّعايةُ الصحيّة اللاّزمة.
هناك أيضًا القطاعُ الطبّي الّذي يُقدّم الخدمة للمُصابين، فهؤلاء يَدخلون في ضغطٍ إضافيٍّ نتيجةَ زيادةِ الأعباءِ عليهم، إذ عليهم أنْ يبتعدوا عن أبنائهِم وأزواجهِم وعائلاتهِم، ولديهم محاذير أكثر مِن الآخرين، خصوصًا أنّ بعض مُقدّمِي الخِدمةَ الطبيّة أصيبوا بالفيروس؛ لذلك كان لِزامًا الثّناءُ على ما يقومون به ودعمُهم مجتمعيًّا وتقديمُ الدّعمِ والمشورةِ النفسيّة لهم، وعدم لومِهم وانْتقادِهم في كلّ صغيرةٍ وكبيرة. ولا يمكنُ إغفالُ شريحةِ أهلِ المريض الّذين يكونون بأمسِّ الحاجةِ للمعلومة الطبيّةِ المتّزنةِ والمُطمْئِنة"[11].
6/ الثّباتُ وضبطُ النّفسِ عند الإصابةِ بالفيروس: فإنَّ آثارَ الخوفِ والقلقِ على المُصاب هي أخطر مِن غيرِه باعتِبارِ حالتِه المرضيّة مع المَشاعِر السّلبيّة، فهي أكثر تعقيدًا وأقلّ حظًّا في الشّفاء؛ خاصة في ظلّ تأكيدِ الدّراسات الحديثة على قلّةِ نسبةِ شفاءِ المرضى الّذين يَملكون أفكارًا سلبيّة حول مرضِهم.
يقول الدّكتور فيليب هاموند Philip HAMMOND: "نحن لا نَفهم لماذا يتعافى بعض الأشخاص تمامًا من العدوى، والبعض الآخر يُعانون مِن إرهاقِ ما بعد الإصابة بالفيروس لمدّةٍ تصل إلى ثلاثة أشهر، ويعاني البعض لفترةٍ أطوَل، حيث يُسمّى ذلك التّشخيص بمتلازِمة (التّعب المزمن)..؛ تلعب الجينات دورًا فى ذلك، لكن البيئةَ لها دورٌ أيضا..، لا يمكنُنا فصلُ الوراثة عن البيئة الّتى نعيش فيها؛ لقد وجدَت بعضُ الأبحاث أنّه إذا كان النّاس قلقين وخائفين عندما يصابُون بفيروس ما، فقد يُؤدّي ذلك إلى تفاقم الأعراض ويزيدُ من خطرِ تعبِ ما بعد الإصابةِ بالفيروس"[12].
وإذا كان هذا معلومًا لدى مُحيطِ المريضِ مِن الأقارب والأصدقاء أو المُشرفين بالقيام عليه صحّيًا، وَجَب عليهم العمل على تقويّتِه مِن النّاحية النّفسية؛ عنْ طريق التّواصلِ معه بالمُتاحِ صحيًّا تخفيفًا لوطأةِ العزْل عنه ومرارةِ الوِحدة وشدّة المعاناة، والسّعيِ في دفعِ أسباب شُعورِه بالاكْتئابِ وشَغلِ بالِه عن التّركيز على حالتِه المرضيّة، ورفعِ معنوّياتِه رفعًا يملأُ قلبَه تفاؤلاً يتخلّصُ به مِن القلقِ الزّائدِ ويزيدُ أملَه في الشّفاء، والتّرغيبِ له في الصّبرِ على المرض والاحتسابِ لأجرِه وتذكيرِه بالفضائل في هذا الباب.
7/ التّفاؤلُ بانتِهاءِ الوَباء وارتِفاع البلاء: فقد كان النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- يتفاءلُ ويُحبُّ الفألَ ويُعجبُه -كما ورد في صحيح الأخبار-؛ بل هذه سيرتُه تحكي لنا عجائب مواقفِه في عِزِّ حِصارٍ وشدّةِ ضعفٍ قلَّ خِلاله النّصير واسْتعلى فيه الخَسير؛ يَخرُج مِن مكّةَ مُهاجرًا فتُطاردُه قريشٌ ومعه صاحبُه أبو بكرٍ -رضي الله عنه-، فيقول مُخاطبًا إيّاه في قلبِ صحراء لا مفرّ فيها مِن عدوٍّ يطلبُه مِن كلّ الجهات: [[لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى، وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]] (التّوبة 40)؛ ويقودُ جمعَ المؤمنين يومَ بدرٍ في ملحمةٍ اختلَّ فيها ميزانُ المواجهةِ ضدّ جيشٍ عَظيم العددِ عَزيم البأسِ صَريم الأمر، فيُبشّر أصحابَه بالنّصرِ ويُخبرُهُم بمَصارِعِ رؤوسِ الكُفر مِن صناديد قريش وهم في غمرةِ الخُيلاء؛ تُحَاصَرُ مدينةُ الإسلام مِن أحزابِ الكُفرِ والنّفاقِ المُتمالئةِ على مُحاربةِ الدّينِ ومحوِ أثرِه، فيرفعُ معنويّاتِ أصحابِه وهم يحفرون الخَنْدَق حول المدينة، ويُدخِل السّرورَ في قلوبهِم ويذكُرُ لهم مدائنَ كِسرى وقَيْصر والحَبشة، ويُبشّرُهُم بفتحِها وسيادةِ المسلمين عليها..؛ صلواتُ الله وسلامُه عليه.
فحريٌ بالعبدِ المُقتدي بنبيِّه -عليه الصّلاة والسّلام- أنْ يكون اليوم مُتفائلاً في ظلّ هذا الوباء، رغم أَضرارِه وآثارِه على البلاد والعِباد؛ وتجدُرُ الإشارة في هذا المَقام إلى تأكيدِ بعض الدّراسات[13] على أنّ التّفاؤل يجعل الإنسانَ مُتمتّعًا بمناعةٍ مُضاعَفَةٍ بالمقارنةِ مع الإنسان المُتشائم، وذلك لأنّ جسمَ الشّخص المُتفائِل -كما تقول الدّراسة- يُفرز بعض الأنواعِ مِن الهرمونات المُساعدةِ على كفاءةِ الجهاز المناعي.
ولا زالت البشائِر تتوالى بأحداثِها وأخبارِها الدّائرة حول حقائقِ الوباءِ وآثارِه والمعلوماتِ عنه وفُرصِ الخروج مِن نفقِه؛ مِن ذلك إشارةُ التّقديرات إلى تعافي ما بين 95 و97 % مِن الأشخاص المصابين بفيروس كورونا، وبالمقابل انْخفاض نِسبةِ الوفيات الإجمالي المتراوح ما بين 3 و5 %، مقارنةً بنسبِ الوفيات لدى المصابين بفيروسات أخرى سابقة؛ كما تتسابق دول العالم -اليوم- للوصول إلى لقاحٍ للفيروس؛ وكان المدير العام لمنظّمة الصحّة العالمية قد أعلن عمّا وصفها بتجربةِ تضامنٍ متمثّلةٍ في دراسةٍ تشترك فيها عدة دول، لتحليل علاجاتٍ غير مجرَّبة من أجل تسريع البحث عن الأدوية المحتملة للفيروس، ولعلّ توصّل العلماء إلى كيفيّة اختراق فيروس كورونا للخلايا البشريّة وطريقة محاربتِه لجهاز المناعة، ممّا سيفتح الباب واسعًا لتطوير العلاجات الّتي سيدخل بعضها مراحل التّجارب السّريريّة قريبًا؛ كما تمّ اقتراح بروتوكولات لاقت قَبولاً في المجتمع الدولي، تَسْتخدم دواء الملاريا الهيدروكسي كلوركوين (Hydroxychloroquine)، بالإضافة الى الأدوية المضادّة للفيروس المعروفة.[14]
8/ اسْتحضارُ الجوانِب الإيجابيّة للوباء: لا يتمنّى عاقلٌ حدوثَ الوَباء، ولا يرجو مؤمنٌ رؤيةَ آثارِه على البلاد والعِباد؛ لكنْ هذا لا يتعارَض -أبدًا- مع أهميّة إبراز بعض الأشياء الإيجابيّة المُفيدة في الحال والمآل مِن وراءِ المِحنةِ والبلاء، على مبدأ المَقولةِ الحكيمة: رُبَّ ضارةٍ نافعة؛ بل هذا ممّا هو ضروريٌّ في لفتِ نظرِ النّاس إليه وإشاعتِه فيهم، بهدفِ زرعِ الطّمئنينة وتخفيف الاضطراب في النّفوس، وترجيحِ الكفّة الإيجابيّة على الكفّةِ الصّانعة للرّعب والدّافعة إلى الهلَع...
أمّا على المُستوى الدّيني؛ فبالإضافة إلى كتابةِ ثواب ما كان يعمله العبدُ سالمًا صحيحًا مِن الأعمال الصّالحة قبل أنْ يحبسه العُذر؛ فإنّ في الصّبرِ على الوَباء أو الموت به، فضائل كثيرةً وَردت بذكرِها النّصوص الشّرعية؛ مِن ذلك قول النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- في الطّاعون: ((ما مِن عَبْدٍ يَكونُ في بَلَدٍ يَكونُ فِيهِ، ويَمْكُثُ فيه لا يَخْرُجُ مِنَ البَلَدِ، صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أنَّه لا يُصِيبُهُ إلاَّ ما كَتَبَ اللهُ له، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ شَهِيدٍ)) (البخاري عن عائشة)، وقوله -عليه الصّلاة والسّلام- في مَن مات فيه: ((وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ)) (مسلم عن أبي هريرة)؛ فضلاً عمّا وَردَ في القرآن والسنّة في فضائلِ الصّبر والاحتساب على المرضِ والبَلاءِ عمومًا.
وأمّا على المُستوى الاجتماعي؛ فإنّ في الأزمات تتعزَّزُ قِيم التّضامن بين أبناء المُجتمع عادةً، وتتقوَّى مناعةُ الفردِ النّفسية ليُصبح صلبًا ثابتًا أمام شتّى لواحِقِ الضّرر والأذى، ويَحيَا في الإنسانِ تحمّل مسؤوليةٍ أماتت قيمتَها حياةُ الدّعة والتّكاسل، ويتجدّد النّسيج المُجتمعي تجدّدًا يُخرج مِن خلالِه المُجتمع أحسن ما في إنسانيّتِه، ويتغلّبُ إيثارُ العَقلِ على أنانيّةِ النّفس بضمائر حيّةٍ مُشرِقة الأنوار، ويتولّد الشّعور بالعِزّة والفخْر مِن شجاعةِ التحدّي والإقدامِ على ما يُسعِفُ البلادَ والعِباد..؛ باختصار: الأزماتُ تجعل المجتمع أقوى ممّا كان عليه قبلها، بشرط اسْتخلاصِ الدّروس والحِفاظ على مُخرجاتِها الإيجابيّة؛ ومَن قرأَ عن حالِ الألمان واليابانيّين بعد حربٍ عالميّةٍ دمّرَت بلادَهم وكيف أعادوا بناءَها على الأنقاض، أدْركَ قيمةَ الحِكمةِ الكبيرة القائلة: الأزمات فُرص!
وأمّا على المستوى السّياسي؛ فالوَباءُ كفيلٌ بكشفِ مُجمل العُيوب والثّغرات الموجودة في بعض الدّول والحُكومات ومِن ثَمّ يُعمَلُ على إصلاحِها، لا سيّما في القِطاع المُرتبطِ مباشرةً بالأزمة -سواءً مِن حيث ضرورتِه أو تأثّرِه بها-، ألا وهو قطاع الصحّة وقطاع التّجارة؛ فإنّ الأزمة النّاتجة عن الوَباء قد وَجّهَت الأنظار إليهما وركّزَت الانتقادات عليهما، بسبب الاختلالِ الّذي أظهرَه كلٌّ مِن النّقْصِ في العتاد الطبّي والوسائل الضّروريّة للكشف عن الفيروس في وقتِه بالعدد المطلوب، والضّعفِ الرّهيب في عددِ الأَسِرّةِ والقاعات المُجهَّزة للحَجْر الصحّي وعلاج المُصابين، والاضطرابِ في توزيع المَؤونة الغذائيّة الضّروريّة على مُستحقّيها وسائر الحاجات في ظلّ إلزاميّة إبقاء النّاس في مَنازِلهم، وتَغوُّلِ المُضارِبين ومُخالفاتِهم المتحدّية لقوانين الدّولة باحتكارِهم للسّلعِ الضّروريّة ثمّ تلاعبِهم بأسعارِها...؛ فكلّ هذا ممّا يُساعد الحكومات ذات الإرادة في خدمة شعوبها، على إعادةِ النّظر مُستقبلاً في السّياسة العامّةِ لإدارةِ البلاد -لا سيّما السيّاسة الصحيّة والتّجارية- بما يُصلحها ويُطوّرُ الدّولةَ فيجعلها قويّةً مُتسلّحة أمام العوارض المُتنوّعة.
9/ المواظبة على الأدعيّةِ والأذكار: "فإنّ الأذكار النّبوية والأدعيةَ المأثورة هي أفضلُ ما يأتي به المُسلم مِن الذّكر والدّعاء لاشتمالِها على غايةِ المَطالِب الصّحيحة، ونهايةِ المقاصد العليّة، وفيها مِن الخيرِ والنّفعِ والبركةِ والفوائدِ الحميدة والنّتائج العظيمة ما لا يُمكن أنْ يُحيط به إنسانٌ أو يُعبِّر عنه لسان، وسالكُها على سبيلِ أمانٍ وسلامةٍ وراحةٍ وطمئنينةٍ..، يُظاف إلى ذلك ما يترتّبُ على المواظبةِ عليها مِنْ أجورٍ عظيمةٍ، وخيراتٍ عميمةٍ، وأفضالٍ مُتعدِّدةٍ في الدّنيا والآخرة"[15].
وقد وردَ مِنَ الأدعيَةِ والأذكارِ النّافعةِ في ذهابِ الهَمِّ وارْتفاعِ الغمِّ وجلاءِ الحزن، جملةٌ مِن الأحاديث النّبوية مِنها قولُ النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- عند الكَرْب: ((لا إلَهَ إلاَّ اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ رَبُّ  العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ)) (البخاري ومسلم عن عبد الله بن عبّاس)؛ ودعوةُ ذي النون الّتي لم يدعُ به رجلٌ في كرْبٍ أو بلاءٍ مِن أمرِ الدّنيا إلاّ فَرَّجَ الله عنه -كما قال عليه الصّلاة والسّلام-: ((لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين)) (التّرمذي عن سعد بن أبي وقّاص)؛ ودعاءُ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ((اللَّهمَّ رحمتَك أَرجو فلا تَكِلني إلى نَفسِي طرفةَ عينٍ، وأصلِح لي شَأني كلَّه لا إلَه إلاَّ أنتَ)) (أبو داود عن أبي بكرة نفيع بن الحارث)؛ والدّعاء الّذي ما قاله عبدٌ أصابه هَمٌّ أو حَزَنٌ إلا أذهب اللهُ -عزّ وجل- هَمَّه وأبدله مكانَ حُزْنِه فَرَحًا -كما في الحديث-: ((اللَّهُمَّ إني عبدُك وابنُ عبدِك وابنُ أَمَتِك، ناصيتي بيدِك ماضٍ فيَّ حكمُك عَدْلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك أو أنزلتَه في كتابِك أو علَّمتَه أحدًا مِنْ خلقِك أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك، أنْ تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حُزْني وذَهابَ هَمِّي)) (أحمد عن عبد الله بن مسعود)؛ والاسْتغفار لقولِ النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن لَزِمَ الاستِغفارَ، جعَلَ اللهُ له مِن كلِّ ضِيقٍ مَخرَجًا، ومِن كلِّ هَمٍّ فَرَجًا، ورَزَقَه مِن حيث لا يَحتَسِبُ)) (أبو داود عن عبد الله بن عبّاس).
وثمّة أدعيّةٌ وأذكارٌ أخرى نافعةٌ جدّا في هذه الأحوال الخاصّة؛ بل مِنها ما نفعُه عامٌّ لا يختصّ بحالٍ ولا يتقيّد بسَبب، كأذكارِ الصّباح والمساء والتّعاويذِ والرُّقى؛ تجدُها مُدوّنةً في بعض الكتب الّتي اعتنى فيها أصحابُها بجمعِها وترتيبِها وتخريجِها وتمييزِها عمّا لا يصحّ مِن الأحاديث والسّنن؛ مِن تلك الكتب: (حِصن المُسلم مِن أذكار الكتاب والسنّة) و(الدّعاء ويليه العلاج بالرّقى مِن الكتاب والسنّة) للشّيخ الدّكتور سعيد بن علي القحطاني، و(كتاب الذّكر والدّعاء في ضوء الكتاب والسنّة) للشّيخ الدّكتور عبد الرزّاق بن عبد المُحسِن البدر.
10/ اتّخاذ الأسباب الصحّية والمعنويّة المُسكِّنة: فإنّ فيها تقليلاً للقلق وراحةً للبال وتقويّةً للجهاز المَناعي كذلك؛ وممّا يُنصح به في هذا الباب[16]: الأكلُ الجيّد والتّنويعُ الغذائي بتناول مُختلَف الفواكه والخضروات في اليوم الواحد؛ تناولُ المشروبات الدّافئة الّتي تُساعد على الرّاحةِ والاسْترخاء؛ التّواصلُ مع أفرادِ العائلة والأشخاص الإيجابيّين عبر الوَسائِط الحديثة بالصّوتِ أو الكتابة؛ التّعبيرُ عن المشاعر وردودِ الأفعالِ عبر البَوح بها للثّقات أو كتابتِها بغرض التخلّص مِن سلبيّاتِها؛ الخلقُ للجوِّ المرِحِ في البيتِ والمشاركةُ للأطفال في ألعابِهم ومطالعاتِهم؛ إظهارُ المشاعِر الإيجابيّة مِن خلال الفكاهة والضَّحكِ المَضبوط؛ الاستحمامُ بالماءِ الدّافئ -خاصّة قبل النّوم- لما فيه مِن المساهمةِ في اسْترخاء العضلات استرخاءً يُساعدُ على النّومِ العميق غير المتقطّع؛ الحِرصُ على النّوم الصحيّ الكافي الّذي يرتاح به الدّماغ ويسترخي منه الجسد؛ ممارسةُ تمارين الاسْترخاء المتمثّلة في أخذ شهيقٍ عميقٍ وزفيرٍ بطيء مع إغماضِ العينين وتخيّلِ صورٍ تكون مصدرًا للابتهاج كمناظر الطّبيعة أو الشّخصيّاتِ المحبوبة.
وأخيرًا؛ هذا ما تيسّرَ لي رقمُهُ في هذا الباب، مُحاوِلاً نَفع النّاس بما يُسعفُهم ومَن حولَهم مِن النّصائح والوَصايا الّتي قدّرتُ مَسيسَ الحاجةِ إليها في هذا الظّرفِ العصيب الّذي تعدِلُ سلامةُ الفردِ سلامةَ الجماعة خلالَه؛ قد عزّزتُ محتوياتِها بمجموعةٍ مِن الآراءِ والشّهاداتِ الصّادرةِ عن أهلِ الخبرةِ والاختصاص في ميدان الطبّ.
وإنّني أسأل الله -الرّحيم المَنّان- أنْ يكشفَ الضُرّ ويدفعَ الوَباء ويرفعَ البلاءَ عنّا وعن النّاسِ أجمعين، وأنْ يشفي المرضى والمُصابين وأنْ يرحمَ المُتوَفِّين مِن إخواننا ويتقبّلهم في الشّهداء، وأنْ يربط على قلوب أهاليهم ويُصبّرهم على المِحَن والبلايا، وأنْ يُثبّتَ المُرابطين في المُستشفيات مِن الأطبّاءِ والمُمرّضين وأنْ يكتب لهم الخيرَ ويَفتَح عليهم فتحًا مبارَكًا هو خيرُ الفاتِحين.
تقبّل اللّهم العملَ والدّعاء، وصلِّ ربيّ وسلِّم على رسولِك ونبيِّك أشرف المُرسَلين وخير النّبيين، والحمد لله ربِّ العالمين.
أخوكم محمّد بن حسين حدّاد الجزائري
ليلة الخميس 22 شعبان 1441هـ،
الموافق 2020.04.16م

نُشرت المادّة في ما يلي:  حسابي على الفيسبوك | حسابي على التويتر



[1] مقال: أنواع الخوف. (موقع إسلام ويب).
[2] ومِن المعلوم أنّ الأشخاص الذين يعانون من ضعف المناعة، هم أكثر النّاس عرضةً للإصابة بالأنواع المختلفة مِن العدوى.
[3] كتاب: الطبّ النّبوي (ص 107)، للإمام شمس الدّين بن قيّم الجوزية.
[4] صفحة الاستشارات النّفسية على (موقع إسلام ويب).

[5] بل يرى بعض الأطبّاء أنّه يُمكن للجسمِ ذي المناعة القويّة، محاربةُ المرض دون تناول أيّ أدوية أو الخضوع لعلاج؛ يقول د. أشرف عقبة -رئيس قسم الأمراض الباطنية العامّة بكلّية طبّ، جامعة عين شمس- بأنّ 45 % مِن حالات الإصابة بفيروس كورونا يتمّ شفاء أصحابها بدون تناول أيّ أدوية،  عن طريق دفاع الجهاز المناعي عن الجسم، موصيًا بالحرص على تقويّته دائما. (بوابة أخبار اليوم)

[6] يقول د. فيليب هاموند Philip HAMMOND : "يقوم التوتّر والقلق والخوف بتدمير الجهاز المناعي، وفقدان طاقتك، حيث تحمل أجسامنا مضادّات للفيروسات المختلفة، لكن البعض منّا فقط يصاب بالفيروس والبعض الآخر لا، يبدو أنّ الخوف والتوتّر يلعبان دورًا فى ذلك، فقد يكون الشّخص عرضةً أكثر للعدوى عندما يشعر بالتوتّر، أو الإجهاد، أو عدم النوم". (صحيفة اليوم السّابع الالكترونيّة)

[7] انظر مقال: يهدد بضعف المناعة.. كيف تحارب قلقك لمواجهة الكورونا؟ لندى سامي. (موقع الكونسلتوومقال: أضرار القلق والتوتر على جسمك عديدة منها ضعف المناعة، لفاطمة خليل. (صحيفة اليوم السّابع الالكترونيّة).

[8] انظر مقال: ابعد عن التوتر والقلق حفاظًا على جهازك المناعي، لابتسام محمود عبّاس. (المصري اليوم)

[9] أقصد –هنا- المصادر ذات مصداقيّة؛ أمّا المصادِر غير الموثوقة ذات المعلومات المغلوطة والشّائعات المُفزعة، فيُنصحُ الجميع باجتنابِها والكفّ عن متابعتِها وتصفّّحها تماما!

[10] حوار: كيف سيرفع كورونا مناعة الناس النفسية؟ مع د. سماح جبر. (الجزيرة نت)

[11] حوار: كيف سيرفع كورونا مناعة الناس النفسية؟ مع د. سماح جبر. (الجزيرة نت)

[12] مقال: خبراء الصحّة ينصحونك، تغلب على القلق...، لأمل علام. (صحيفة اليوم السّابع الالكترونيّة).

[13] انظر مقال: فوائد التّفاؤل على الصحّةِ النّفسية والجسديّة. (موقع النّجاح)

[14] أنظر حوار: عالم فيروسات يحذر من تهويل كورونا..، مع د. يحيى مكّي عبد المؤمن. (الجزيرة نت)؛ ومقال: معلومات تبعث التّفاؤل في علاج كورونا، للصّيدلانيّ إبراهيم علي أبورمان. (صحيفة الرّأي الأردنيّة)

[15] كتاب: الذّكر والدّعاء في ضوء الكتاب والسنّة (ص 7)، للشّيخ عبد الرزّاق بن عبد المحسن البدر.

[16] أنظر مقال: يهدد بضعف المناعة.. كيف تحارب قلقك لمواجهة الكورونا؟ لندى سامي. (موقع الكونسلتو)؛ ومقال: خبراء الصحة ينصحونك: تغلب على القلق والخوف...، لأمل علام. (صحيفة اليوم السّابع الالكترونيّة). ومقال: ابعد عن التوتر والقلق حفاظًا على جهازك المناعي، لابتسام محمود عبّاس. (المصري اليوم)