5.28.2011

وَانْجَلَى اللَّيْلُ وَانْكَسَرَ القَيْدُ

وَانْجَلَى اللَّيْلُ وَانْكَسَرَ القَيْدُ
 
 
هل كان يَظنُّ شاعر تونس الكبير "أبو القاسم الشَّابي" أنَّ قصيدتَه "إرادة الحياة"، ستنشدها حنجرةُ شعْبه يومًا بأعذب صوت في أشرفِ مسيرة؛ لتكون شعارَه الرَّئيس فيها، ورمزه الكبير على لافتاتها؟
الجواب هو: ما عِشْناه ورأيناه، وقرأنا عنه عبرَ مختلف وسائل الإعلام على مدى شهر من الزَّمان؛ وكأنَّ بصاحب "الإرادة" عاد برُوحه ليحتضنَ جسده من جديد، معيدًا كتابة أبياته بصوته، وعرقه ودمه، مستنسخًا حنجرته وأجزاءه في كلِّ مناطق تونس: سيدي بوزيد، القصرين، قفصة، القيروان، نابل، تونس، بنزرت، قبلي، مدنين، توزر، المنستير، وغيرها.
إنَّ ما صنعتْه الأُمَّة التُّونسيَّة بكلِّ أصنافها وطبقاتها وألوانها يُعدُّ إنجازًا تاريخيًّا عظيمًا، سيحفظه مَن عايش أحداثه، أو رأى صناعتَه، أو من سيتلقَّاه حكايةً جميلة مِن هؤلاء - إنجازًا لَم يتوقَّعْه العالَم، ولا تونس والتُّونسيون أنفسهم عند أوَّل الاحتجاجات، التي كانتْ بدايتها تَحرُّكٌ عفويٌّ تفاعليٌّ مع الشَّاب "محمَّد البوعزيزي" الذي أضرم النَّارَ على جسده في ولاية "سيدي بوزيد"، كآخرِ وسيلةٍ رآها تنهي عنه ظُلمًا سُلِّط عليه، بعد انسداد الأبواب أمامَه، وإهانته، والمساس بكرامته، لتتحوَّل الحادثة إلى مواجهاتٍ بين شباب متضامنين معه، وبين أعوان أمْن تونسي، دون أن يتجاوزَ ذلك حدودَ المدينة.
قبل أن تأخذ الاحتجاجاتُ أبعادًا أخرى، بمجرَّد انتشار خبر وفاة الشَّاب وذيوعه، فتوسَّعتْ رقعتها في ربوع تونس توسُّعًا فَرَض على رئيس البلد الظُّهور ثلاثَ مرَّاتٍ خلالَ مُدَّة قصيرة غير معتادة، متوعِّدًا، ثمّ مُهدِّئًا، ثمَّ متنازلاً بتنازلاتٍ أشعرتِ المحتجِّين بقوَّتهم، فقوبلت برفْع سقف المطالب إلى قصْد بن علي نفْسِه، وأعوانه وزبانيته، مطالبين بتنحِّيهم جميعًا.
وفرَّ أهلُ الفساد وسقَط نظامهم، فتحقَّق حلم التُّونسيِّين في خير يوم طلعتْ فيه الشَّمس، بعدَ سنوات طويلة ذاقوا فيها الويلات، وطالهم التَّضييقُ بشتَّى أنواعه، وربَّما لم يعلمِ الكثير بواقعهم المؤلِم إلاَّ بعد الأحداث التي فضَحتِ الجلاَّد، فكثيرًا ما انخدع الأجانب بسحر جمال تونس، وزيف ما تُظهره لهم سياحتها، كأنَّها بلد بلغ من الرَّفاهية مستوًى يجعل شعبه من أحسن المجتمعات معيشةً وأمنًا، قبل أن تتجلَّى لهم الحقيقة المُرَّة، حقيقة أشارت إليها امرأةٌ تونسية تقيم في ألمانيا بما معناه: "تونس جنَّة لقضاء الإجازات فقط!"
وسقط الظَّالِم، وضُمِّدتْ جراح الضَّحايا في أبدانهم والقلوب؛ وشُلّتْ يد صاحب الأغلال، وانكسرت قيوده بحَمَامٍ خرَج مِن بين القضبان، محلِّقًا نحو سماء قدِ انجلى عنها اللَّيل، وفرَّ المستبدُّ صاغرًا ذليلاً مِن قصره يتسوَّل عند أبواب الملاجئ، وعاد المُهجَّر إلى أرض آوته وآباءه مُكرَّمًا عزيزًا؛ وعُرِّي الظَّالم فظهر عَواره، وهو الذي حاصر الحجابَ وطارده، ليُلجِئ صاحبتَه إلى التكشُّفِ مُكرهة وهي تصيح: وإسلاماه؛ وصَمَت مَن وصف الأذان - ذات يوم - بـ "التلوُّث الصَّوتي" كصمت أصحاب القبور؛ مفارقات مؤثِّرة وحقائق متقابلة، تُذكِّر بعدل الله - سبحانه - ورحمته بعباده، يسمع دُعاءَ المظلومين، ثمَّ ربَّما أمهل للظَّالِم ولم يُهملْه.
إنّها عواقب ظلم سلطان جائِر، يستبدُّ بسلطانه وينتهي كأمثاله: [[وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ]][1]، "إنَّ الاستبدادَ داءٌ أشدُّ وطأةً من الوباء، أكثر هولاً من الحريق، أعظم تخريبًا من السَّيل، أذلُّ للنُّفوس من السُّؤال، داء إذا نزَل بقوم سمعتْ أرواحُهم هاتفَ السَّماء ينادي: القضاءَ القضاء، والأرض تُناجي ربَّها بكشْف البلاء"[2]، ولا شماتة في عاقبةٍ لا يوقن أحدُنا بالسَّلامة منها، إنَّما هو شريط قصَّة أذكُرها للاعتبار، ونسأل الله العفوَ والعافية.
لستُ تونسيًّا انتسابًا، لكنَّني تونسيٌّ بمشاعرٍ تعانقت مع مشاعِر أهل تونس، وأنا أرى الفرحةَ قد أشرقت من عيونهم، تضيء لمستقبل يبشِّرهم بحلول الرَّبيع، وأتأمَّل الدُّموع قد انحدرتْ من أجفانهم، اختلطت ألوانها بين بريق سعادةٍ بالحاضر وسواد جرْح قديم، وهم الإخوة والأهل والجيران.
إنَّما يستقرُّ الحُكم ويُحافَظ على كرسيِّ سلطانه، بالتزام مُراد الله مِن توريثه الحُكمَ لعباده، وتحقيق ما يصبو إليه المحكوم مِن حاكِمه، فالحقُّ أساس العدل، والعدل أساسُ الملك، وإنَّ في الظُّلم فناءً له حسًّا ومعنًى، فهو لن يدومَ والحجج على صاحبه تنهش تحته، وهو بذلك مجرَّد قيمة مادِيَّة تُعرِّي صاحبها من كلِّ معنًى بمجرَّد زواله؛ ورَضِي الله عن صِدِّيق الأمَّة حين قال في أوَّل خُطبة له بعد توليه الخلافة: "أيها النَّاس، فإنِّي قد وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم، إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني؛ إنَّ الضَّعيفَ فيكم قوي عندي حتى آخذَ الحقَّ له، وإنَّ القويَّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذَ الحق منه، أطيعوني ما أطعتُ اللهَ ورسولَه، فإن عصيتُه فلا طاعةَ لي عليكم".
"إنَّ السِّياسةَ هي إدارة شؤون أبناء المجتمع وَفْقَ أصول وقواعد تحفظ حقوقَ كلِّ إنسان، وتكون هذه الإدارة بالتَّعاونِ والرِّضا من الجميع حاكمين ومحكومين، وإذا كان التَّكامُلُ والتَّكافُلُ عنصرين رئيسين لضمان الوحدة المجتمعيَّة، فإنَّ العدالة التي تُؤسَّس على نظام التَّآخي بين أفراد المجتمع، والتي تُعطِي لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه؛ هي الأرض الخصبة التي ينمو فيها هذا التَّكامُل والتَّكافُل؛ حتَّى يكونَ أبناء المجتمع كأعضاء الجَسَد الواحد فعلاً في توادِّهم وتراحمهم، وهذا النَّمط السِّياسي هو ما أسَّسه الإسلام، وما عُرِف بالنِّظام الشُّوري المأمور به.
وانسجامًا مع هذا الاستنتاجِ تَرسَّخ في ضمير النَّاس أنَّ العدل طريقُ البناء والتقدُّم، وأنَّ الظُّلم والاستبداد هما طريق التَّخلُّف والتأخُّر، ممَّا جعَل ذلك متلخِّصًا في مثَل شعبي تتناقله الألسن، وتتوارثه الأجيال وفيه: الظُّلم إذا دام دَمَّر، والعدل إنْ دام عمَّر"[3].
ثمَّ نسأل اللهَ الواحد الأحد لإخواننا التُّونسيين الذين جَسَّدوا "إرادة الحياة"، حياةً جديدة ملؤها الخير والهناء، وأن يكونَ معهم في بناء تونس وتشييدها على أسس صحيحة، بعدما أنعم عليهم بهدايتِهم إلى المخرَج من النَّفق الطَّويل المظلِم، ونسأله - سبحانه - أن يجعلَ بلادَهم بلادًا آمنةً مطمئِنَّة وسائر بلاد المسلمين، ينعمون فيها بالحريَّة والسِّلم والسَّلام، ويُوفَّق مَن يَحكُمهم إلى القضاء فيهم بالحقِّ والعدل، ويلهمه الحِكمةَ والبصيرة، ويُحسن له البطانة والمشورة؛ ونسأله - الرَّحمن الرَّحيم - أن يرحم "محمَّد البوعزيزي" وإخوانه من الضَّحايا الذين سقطوا عندَ عتبة مخرَج النَّفَق، وأن يتغمَّدَهم بعَفْوِه وكرَمِه ومغفرته، ويفسح لهم في قُبورهم ويُنوِّر لهم فيها، وأن يرفعَ درجاتِهم في المهديِّين، ويخلفهم في عقبهم في الغابرين.
أخوكم محمد بن حسين حداد الجزائري
يوم السّبت 11 صفر 1432هـ،
الموافق 2011/01/15م


[1]  سورة الشعراء: الآية 227.
[2]  طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، لعبد الرحمن الكواكبي.
[3]  بين الحرّية والاستبداد، للدّكتور أسعد السحمراني.


نُشرت المادّة في ما يلي: موقع الألوكة