12.11.2019

سأنتخب يوم 12/12.. الدّوافع والأسباب


سأنتخب يوم 12/12.. الدّوافع والأسباب 



مقدّمةُ تذكيرٍ وتنبيه:

مِن حقِّ مَن عرفني مِن إخواني الّذين شاركتُهم حَراكًا صنعَ حدثًا مِن أعظمِ الأحداث الّتي ستذكُرها الأجيال على مرّ التّاريخ، وسِرتُ معَهم في مظاهراتِ كسرِ الأغلالِ ومناهضةِ الاستبدادِ منذ ساعتِها الأولى، وفي مختلفِ الأيّامِ والجمعة خاصّة.

ومِن حقّ الكسالى ومعارضي السّاعة الخامسة والعشرين -أيضا-؛ الّذين اكتشفوا النّضال (النّاعم) بعد 22/02/2019م، والّذين يكتفون بقراءة العناوين، فيرمون بالتّهم الباطلة رجالاً كانوا بمثابة أهلِ بدرٍ -مِن حيث الأقدميّة- في مقاومةِ الاستبداد..

أقول لأولئك وهؤلاء –جميعًا مذكّرًا ومنبّهًا-:

إذا كنتَ مِن الّذين لا يزالون سائرين في الحَراك؛ فاقرأ مارقمتُه بعيدًا عن الهتافات الصّاخبة المشتِّتة للتّركيز، المؤثّرةِ على التجرّد المطلوب في القراءة السّليمة العادلة.

أمّا إذا كنتَ مكتفيًا بقراءةِ العنوان، فتوارَ عنّا بفكرتِك -يرحمك الله-، لا حاجةَ لنا بتعليقٍ يُشغلنا الردُّ عليه عن الجادّة!

أنا ابن الحَراك أصالةً –لا أقول هذا احتماءً أو اعتذارًا-، وإنّني لأفخر إذْ كنتُ أحد مكوّناتِه الأولى الّتي حقّقتْ أبرز المطالب والغايات الّتي خرجَت من أجلها منذ اليوم الأوّل –أحمد الله على ذلك وأسأله القبول-؛ لكن رغم عظمة نُبلِ الموقف (الحَراك)، لا يجوز أنْ يُخرجُه الوصف عنْ كونِه مجرّد حركةٍ مِن الحركات البشريّة ووسيلةٍ من الوسائل التّغييرية، الّتي تستهدف تحقيقَ مصالح أو دفع مفاسد قد قَدّرَت الجماعةُ المتحرّكة مِن أجلها والمتوسّلة إليها بحصول الغاية من حَراكها؛ والتّقديرُ خاضعٌ للاجتهاد، والاجتهادُ قابلٌ للتّغيير، والتّغييرُ مرهونٌ بحالِ الأفق قربًا وبعدا، وبنوع النّتيجة خيرًا وشرّا؛ ولهذا كانت عموم الحركات البشريّة تُعقَبُ بالمراجعات؛ وعليه فالحَراك لا يعلو على الانتقاد ولا يسلم منه.

ولو كانت ثمّة حركةٌ على وجه الأرض تستحقّ العلوّ على الانتقاد والسّلامة منه، لكان ذلك لصحابة النّبي -عليه الصّلاة والسّلام- والتّابعين مِن بعدِهم –رضي الله عنهم وعن أسلافهم-؛ مع ذلك قد حفظ لنا التّاريخ الإسلامي الخلاف العظيم الّذي وقع في الخروج يوم الجمل، وفي خروج الحسين وأمّةٍ من الصّحابة –رضي الله عن الجميع- إلى العراق، وفي خروج عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- ومَن معه ضدّ الحجّاج..، فضلاً عن الحَركات التّاريخية الكبيرة الأخرى التي وقع فيها الخِلاف؛ فكيف بحَراكِنا اليوم؟! الذي لم يخرج فيه الصّحابة ولا التابعون ولا تابعو تابعيهم ولا الأئمة الأكابر؛ بل خرج فيه مِثلي ومِثلُكَ، و خليطٌ من البشر دينًا وتوجّها ومنهجا وخُلقا وفَهما وعِلما..؛ فلا شكّ أنّه بالنّقد والمراجعة أولى!

وعليه؛ كان الشّأن في مثل هذه الأشياء المناقشة والبيان، لا التّخوين الاستهجان؛ هذا يجبُ أن يَرسخ في أذهاننا، حتّى نتقيّد بمعناه عند كلّ كتابةٍ أو تعليقٍ في مثل هذه المواضيع، وإلاّ كنّا بمثابة المدّعي ملكيّةَ الحقيقة المطلقة.

ذلك أنّ الحديث عن الحقّ والباطل والثّبات والموقف في هذا المجال، ما هو إلاّ فرعٌ لتصوّرك للأشياء؛ فليس كلّ ما تراه أنت حقًّا هو كذلك عند غيرك، وليس كلّ ما تراه أنت باطلا هو كذلك عند غيرك، ذلك أنّ درجةَ الإدراك للأشياء ومَبلَغَ الفهم للأمور مختلفٌ عند الناس بالفطرة، والتّعاملَ مع الأحداث المتنوّعة والتّفاصيل المعقّدة متجدّدةٌ بالتّجربة؛ فكيف تتحدّث في الثّبات على المختلِف والمتجدِّد الّذي لا يعترفُ بالوحدة والاستقرار؟! بل حدّثني عن الثبات على المبدأ الذي لا يتغيّر مهما تغيّرت وسيلتك وتحوّل موقعك وتبدّل حالك!

وإنّ المبدأ غير الموقف؛ فالأول غير قابل للتّغيير بخلاف الثاني؛ وما خروجُنا في الحَراك إلاّ موقفٌ من المواقف الّتي تأبى الاستمرار إلى اللاّنهاية متى قدّرنا تحقُّق الغايةِ المَرجُوّة كليًّا أو نسبيا.

وقد قدّرتُ بعد مشاركةٍ طويلةٍ مستمرّةٍ ضمن الحَراك، أنّ الانتخابَات أصبحت خيارًا تُحتّمُه الضّرورة ويُمليه العقل وتقتضيه السّياسة؛ ما دامت متماشيةً مع المبدأ غير متناقضة معه...

هذا اختياري أنا، فاحترمْه ولا تُصادِر حقّي فيه؛ فإنْ أقنعتُك به، فهو مِن فضلِ تواضعِك وصِدقِك بعد فضل الله -عزّ وجلّ- وليس لي منه حظّ؛ وإنْ لم أُقْنِنِعْك، فلي أسوةٌ في قولِ الله –سبحانه– لنبيّه -عليه الصّلاة والسّلام-:
[[وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ]].

وإليك الدّوافع والأسباب:

أوّلا/ قناعةٌ مبنيّةٌ على متابعةٍ للتطّورات وقراءةٍ للأحداث:

إنّني أكره انْقيادًا لغير قناعتي يحبسني عن قول حقٍّ يظهر لي، ولو كان ذلك على خلاف رِضا الكثير، وإنّ القناعةَ هي الإرادةُ الّتي لا يقبل بتقييدِها إلاّ مَن رهنَ حريّته عند الآخرين؛ وقد حرصتُ منذ بداية الحَراك على متابعة التطوّرات وقراءة الأحداث متابعةً وقراءةً مجرّدةً مِن التعصّب والتّسليم، مع محاولة توسيع دائرة الاطّلاع والقراءة عبر مُختلَف المصادرِ قدْرَ الإمكان -مهما كان الاتّجاه- دون حكمٍ مسبقٍ يحرمني مِن النّظر إلى الأمور بعين العدل، حتّى لا أجعلها ضيّقةً ممتنعةً عن الآراء الأخرى، فإنّ ثمّة عشرات الأسماء من النُّخب وذوي العلمِ والدّراية ما يُفيدُ المرء إذا قرأ لهم أو أنصت، بما يتحصّل لديه مِن مجموعهم قناعةٌ متميّزة مبناها الحجّة والبرهان؛ فضلا عن عدم تقيّدي بأصحابِ بعض اللاّيفات المعروفة لدى عموم النّاس، المتميّزة بالكلام السّاقط الّذي يغلِب عليه كشفُ أسرار الخصم وإبداء فضائحه، دون دليلٍ ولا برهان -غالبا-؛ بل ودون حاجةٍ ولا ضرورةٍ تتعلّق بالواقع! لا سيما المرتبط منها بأهالي القوم وذويهم.

أمّا كون قناعتي بخيار الانتخابات قد وقعَت على خلاف اتّجاه بعض الأفاضل وخيارهِم؛ فلا يهمّني هذا في كثيرٍ ولا قليل، إلاّ في التزام التّقدير لقاماتهم مهما اختلفتِ المواقع، فإنّهم بشرٌ يأكلون الطّعام ويمشون في الأسواق، يُصيبون ويخطؤون في المواقف والآراء البشرية التي يعتريها الخطأ والنسيان عادةً، وقد خالفهم الكثير كما وافقهم الكثير؛ ولو كانت مواقف النّاس -فيما لم يُجمعوا عليه- تصلح حجّةً، فإنّ في المؤيّدين للانتخابات والسّائرين على خطّها أفاضل كُثُر! بَيْدَ أنّ الاحتجاج بمثل هذا لا يَصلُحُ مهما كانت وِجهة صاحبه؛ فليس كلام هؤلاء أو أولئك حجّةٌ على غيرهم إلاّ بدليلٍ يَترجحُ على دليل الغير، إذ الحجّةُ بالقولِ لا بقائله؛ وهنا كان التّقديرُ والنّظر، ولكلٍّ تقديره ونظرته في الأمور.

وإنّ الحقَّ لا يدلُّ إليه سوادُ كثرةٍ ولا شدّةُ صَخَبٍ ولا قوّةُ عاطفة؛ بل نيّةٌ صادقةٌ تستنيرُ بتوفيقِ الله، وعقلٌ رشيدٌ يَستأنس برأيٍ سديد.

ثانيا/ تحقيقُ مقصدٍ مِن المقاصدِ العامّة للشّريعة (جلبُ المصالح ودرءُ المفاسد):

أمنيّةُ كلّ مسلمٍ تعلَّمَ العقيدة ودرس الفقه؛ أنْ يُنصَّبَ لحكمِ البلاد والعباد رجلٌ يُقيم الدّين ويُصلِح به الدّنيا، ولا يتأتّى هذا إلاّ بحاكمٍ عالمٍ بالدّين عارفٍ بالواقع في نفسه أو بمن يعينه فيهما؛ ولمّا عَدِم الحالُ تحقيقَ هذه الآمال؛ وجب علينا التّعامل مع واقعه وِفْق قواعد الشّريعة ومقاصدها العامّة، مِن خلال السّعي عبر الطّرق العصرية المتاحة لتنصيب الحكّام، بناءً على التّقدير بين المصالح والمفاسد مِن حيث الغلبة والرّجحان.

ولمّا كانت الانتخاباتُ هي الآلية المتعارف عليها في العصر الحديث في اختيار الشّعوب لرؤسائهم وممثِّليهم، والجزائر مقبلةٌ على رئاسيّاتٍ في ظروف استثنائيّة بعد حَراكٍ شعبيٍّ تاريخيّ لم تشهده البلاد منذ الاستقلال، ونحن نرى الوضعَ العام عند مُفترق طرقٍ يفرض على الواقف عند نقطتِه أن يتّخذ قراره:

إمّا السّير نحو مجهولٍ برأسٍ معلولٍ ومَطالب ظاهرُها فيه الرّحمة وباطنها فيه العذاب.

وإمّا السّير نحو جزائر جديدةٍ في سياستها واقتصادها وفيما يَسْتكمِل البناء الّذي وضع الحَراك لبناته الأولى.

لا شكّ أنَّ قواعدَ الشّرع وأدلّةَ العقل تؤدّي إلى الخيار الثّاني، الّذي لا يُمكن تحصيله إلاّ بانتخاباتٍ تضع حدًّا للمخاوِف وتفتح عهدًا للمراغِب.

يقول فضيلة الشّيخ ابن الحنفيّة العابدين -حفظه الله- ضمن كلمةٍ له مسجّلة في خصوص الانتخابات الرّئاسية المُقبلة:

"لكنّها حالةُ ضرورة؛ فهل يَترك المرء الذي يُسأل عن الشّيء، يَترك الحبلَ على الغارب ويقول: لا شأن لي بهذا الّذي يجري لأنّه مخالف للشّرع، أم أنّه يتعامل مع هذا الواقع بما يُقلّل المفاسد ويكثر المصالح؟ لا أَحسَب أنّ قواعد الشّرع تَمنع مِن التّعامل مع هذا الواقع؛ بل قد تُحتّم التعامل معه، وقواعدُ الدّين التي أَصّلَها العلماء لم يُؤصّلوها ليَحفظها المرء ثمّ لا يُعملُها! ولهذا فإنّ أقلّ ما يُقال عن هذه الانتخابات أنّ المرء المسلم الّذي يُريد أنْ يَستبرأ لدينه وعرضه، أنّ عليه أنْ لا يَعترض عليها، فلا يجوز له فيما أعلم وفيما أرى أنْ يعترض عليها، الأمر الثّاني: أنّه إنْ رأى مَن هو أصلح مِن غيره بحيث يُحقّق مصالح دينية -وهذا هو المقدَّم وإذا قلنا مصالح دينية فإنّها تدخل فيها مصالح الدّنيا-، أو دنيويّة ويكون أحسن مِن غيره؛ فإنّه إنْ اختاره وانتخبه فإنْ شاء الله هو مأجورٌ بهذا". اهـ

ثالثا/ طي صفحة العهد البوتفليقي البائد والدخول في عهد جديد:

لم يخرج الشّعب الجزائري عن بكرةِ أبيه في الثّاني والعشرين من فبراير، إلاّ بعدما طفح الكيل من ممارسات نظام بوتفليقة الّذي امتدّ لعشرين سنة كاملة، لم يُرَ فيها إلاّ القهر المُقيِّد للحريات، والظّلم المتعدّي على الكرامات، والتسلّط النّاهب للأموال؛ فكان منطقيًّا أنْ يكون أوّل مطلبٍ في حَراكه متمخّضًا عن السّبب الرّئيس الّذي أخرجه إلى الشّارع؛ ألا وهو قطع الطّريق على ترشّح بوتفليقة لعهدةٍ خامسة، وبالتّالي استبعاد نظامه عن حكم الجزائر، واستبداله بنظامٍ جديدٍ عن طريق الانتخابات.

وكلّنا يعلم بآثار الرّئيس السّابق على النّظام السّياسي للبلاد؛ ونحن نرى بعض الأسماء القديمة القريبة مِن بوتفليقة أو جماعته، لا تزال تتبوّأ بعض الوزارات والإدارات، ولا يزال دستوره مرجعًا للمحاكم والإدارات، ولا تزال قراراته وقراراتُ مَن كان معه ساريةَ المفعول إلى اليوم، ولا تزال اتّفاقاته الخارجيّة التّي اشتُريت بها عهداته الرّئاسية ثابتة.

فلزم طيُّ تلك الصّفحة البائسة في أسرعِ وقتٍ وبأقلّ الخسائر، عن طريق الانتخابات.

رابعا/ الانتخابات هي الآلية القانونية التي يرتسم بها مسار البلد:

ليس لنا بدٌّ مِن الانتخاب لاختيار الرّئيس ونحوه، مهما شَبّه المشبّهون ولبّس الملبّسون؛ ومن زعم أنّ ثمّة حلولاً سياسيّةً آمنةً تضمن لنا الانتقال المأمون والمأمول مِن الجميع، فهو شيطانٌ مخادعٌ ينصب الفِخاخ، أو غافلٌ قد عمِي عن إدراك الحقيقة؛ بل الخيار الدّستوري هو الطّريق الآمن لإجراء انتخاباتٍ بدون مقدِّماتٍ انتقاليّة ترتكز أساسًا على حلولٍ سياسيّة خارجةٍ عن منظومةٍ تقيّدها وتتحكّم فيها؛ فكان البديلُ عن انتخابات يُعبَّر مِن خلالها عن الاختيار، هو الفوضى وإنْ زيّنَها السياسيون بوصفها مرحلةً انتقاليّة، وإنّ إقبالهَا غير إدبارِها، إذْ لا تُدركُ خطورةُ هذه المرحلة إلاّ بعد الدّخول فيها، حيث يَظهر التّجاذب ويشتدّ الاصطفاف الّذي يُعقِّد الأزمة ولا يحلّها، ويُطيلها ولا يقطعها.

وربّما قال البعض: نحن متّفقون على اعتبارِ الانتخابات هي الآلية الوحيدة لاختيار الرّئيس، وإنّما الإشكال في تنظيمِها مِن طرف حكومةٍ لا يوثق فيها، وبدستورٍ مختلٍّ قد فُصّل لصالِح واضعِه.

فيُجاب: في الصّيف ضيّعت اللّبن! –كما جاء في المثل العربي-.

يقول الدّكتور عبد الرزّاق قسوم -وفّقه الله-: "فلو أراد المعارضون للانتخاب إحداثَ الجوّ المناسب، لأعدّوا له العدّة، وما العدّة إلاّ ترشيح المرشّح التوافقي، النّابض بقلب الحراك، والذي يمكن أنْ تجتمع عليه كلمة الجميع، لكن الحراكيين فشلوا في أوّل اختبار مصيري لهم". اهـ

لقد كان بأيدينا توفير ظروفٍ للانتخابات أحسن ممّا عليه الآن؛ إذْ توفّرت لدينا بعد تأجيل الانتخابات مرّتين، المشاركة فيها بمرشّحٍ شعبيٍّ توافقيّ، وبمراقبةٍ دقيقةٍ تجعل مسألة تحقيق النّزاهة بأيدينا؛ لقد فازت الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ في تسعينيات القرن الماضي -كما يعلم الجميع- والإدارة النّظامية ومقاليد السّلطة كانت بأيدي أشدِّ حكّامٍ عرفتهم الجزائر، كيف ذلك؟! بكلِّ بساطة، لأنّ حزب الفيس كان مرشّح غالبية الشّعبي الجزائري، الّذي فَرض وجودَه وتتويجه بالمشاركة القويّة لصالحه حينها؛ فكيف والظّروف اليوم أقلّ سوءًا بكثير -حتى لا يُقال أحسن- مِن تلك التي كانت موجودةً تلك الأيّام!

أمّا التحجّج لمعارضة الانتخابات بتنظيمِها مِن طرف الحكومة تحت إشراف نور الدين بدوي؛ فهذه الأخيرة قد سُحبت منها جميع صلاحيّتها المتعلّقة بتنظيم الانتخابات، واستُلِمت مِن السّلطة الوطنية المستقلّة للانتخابات، المتكوّنة مِن شخصياتٍ نزيهةٍ بشهادة بعض الفضلاء -ولم يضرّ طعن البعض الآخر في أجزاء مِن جوانبها-.

وأمّا الدّستور؛ فعلى رغم اتّفاق الجميع في عدم صلاحيّة الكثير مِن موادِه، لكنْ لا يُمكن الخوض فيه بما يفتح شهيّة أنصار المجلس التّأسيسي؛ بل تعديله لا يُمكن أن يكون إلاّ بعد انتخابِ رئيسٍ للجمهورية تستقرّ تحت إدارتِه الأوضاع؛ ومع ذلك فقد تمّ ذلك في الشقّ المتعلّق بقانون الانتخاب منه، الّذي كان مِن الضّروريِّ إجراء تعديلاتٍ عليه في الفترة الماضية.

خامسا/ تحقيق مطلب تطبيق المادّتين السّابعة والثّامنة مِن الدّستور:

فلا يمكن تصوّر تطبيق المادّتين المشار إليهما إلاّ بما بيّنه الدّستور نفسه؛ فكما نصّت المادّة (7) على أنّ الشّعب مصدر كلّ سلطة، وأنّ السّيادة الوطنيّة مِلكٌ للشّعب وحده؛ قد بيّنت -أيضا- المادّة الّتي تليها، ألا وهي (8)، طريقةَ ممارسة الشّعب لسلطته وسيادته؛ حيث نصّت هذه الأخيرة على ممارسة الشّعب لسيادته بواسطة المؤسّسات الدّستوريّة الّتي يختارها، وعن طريق الاستفتاء وبواسطة ممثّليه المنتَخَبين.

ومَن زَعَم أنّ تطبيق المادّتين وممارستهما يكون على غير ما جاء به تفسيرهما قانونيّا، فإنّما يريد القفز على الانتخابات وتشديد الخناق على السّلطة المنظّمة لها، موهمًا عامّة النّاس أنّ تطبيق المادّتين يتمّ وِفْق الخيار السّياسي لا الدّستوري؛ بعضهم يقصد به مجلسًا تَأسيسيًّا تنهار به الدّولة ليُعاد بناؤها على مقاس جمهوريةٍ جديدةٍ مقطوعةٍ عن امتدادها التّاريخي الوثيق الصّلة ببيان أوّل نوفمبر، وبعضهم يقصد به مجلسًا انتقاليًّا يُسيَّرُ به البلد بطريقةٍ مؤقّتةٍ يطولُ زمانها وتسوء آثارها.

وعليه؛ فالممارسةُ الحقيقيّة للمادّتين السّابعة والثّامنة مِن الدّستور -بعد إنشاء السّلطة الوطنيّة المستقلّة للانتخابات-، إنّما تكون عبر صناديق يختار المنتخِبون مِن خلالها مرشّحيهم، أمّا ما يزعمه البعض مِن أنّ المرور عبر مرحلةٍ انتقاليّة يُشرف عليها شخصٌ يرتضيه الشّعب، نمضي مِن خلالها إلى انتخابات في ظروف يرتاح لها الجميع؛ فهو أمرٌ كنتُ مِن المشاركين في مطلبه قبل سَحْب صلاحيّات تنظيم الانتخابات مِن حكومة بدوي غير الموثوق فيها مِن طرف الجميع، وجعلها مِن اختصاص السّلطة الوطنيّة المستقلّة للانتخابات الّتي لم تُنشأْ إلاّ لهذا الغرض.

سادسا/ قطعُ الطّريق على المتربّصين بالجزائر في الدّاخل والخارج:

فما اصطفّ المتربّصون اصطفافَ قطّاع الطّرق عند مُنعرج الانتخابات، إلاّ لعِلمِهم بآثارها على سوقِهم الفوضويّة الّتي يسعون فيها لجني أكبر قدرٍ ممكن من المكاسب والأرباح قبل هدمِها؛ وما أولئك الشّباب الّذين نقلت لنا عدسات التّصوير ممارساتهم العنيفة الّتي سَوّرت مداخل البلديّات، أو حطّمت صناديق الاقتراع، أو حاصرت معظم المترشّحين، أو تحرّشت ببعض المنتخبين؛ بل تجرّأت على بعض الأئمّة الفضلاء والمشايخ الخطباء! ثمّ تناقلها بعض المحسوبين على النّخبة من السّاسة والنّشطاء والإعلاميين على سبيل التّأييد والإشادة! حتّى اشتهر بعضهم بجملة "حيّا الله الأحرار" تشجيعًا منه لصنائع الأغرار! لهو أمرٌ يدلّ على أنّ وراء الأكمة ما وراءها...

طبعًا، أنا لا أقصد عموم أمّة الحَراك الظّاهرة، الّتي لا يشكّ أحدٌ في صدقِ نيّتها في الانتقال بالبلد إلى ما يصبو إليه الجميع؛ بل إنّ صفة التربّص لا تليق إلاّ بالمجموعة الخفيّة الغريبة بأفكارها ومبادئها عن الأصالة والوطنيّة، صاحبةِ الأصوات النّاعقة، المغامرةِ بمصيرِ البلد الّذي أصبحنا نرى فيه المواقف المشحونة بالكراهية في تزايد.

لقد اشتدّ عود هؤلاء الأوغاد بجمهورٍ غفيرٍ يشذّون عن أصالته، تمكّنوا مِن التّأثير على اتّجاهاته وشعاراتِه ومطالبِه عبر قنواتِهم الإعلاميّة القويّة والمتنوّعة -للأسف-؛ لم ينغمسوا بين صفوفِه إلاّ بعد مطارداتٍ متكرّرةٍ ضدّهم في أوّل الأمر، ومحاولةٍ لتوجيه النّاس إلى حَراكِم في يوم آخر غير الجمعة! قبل تمكّنِهم مِن الانغماس وهم الّذين كان منهم مَن يرفع شعارات اللاّئكية واللاّفتات المناقضة لبيان أوّل نوفمبر؛ بل قد وُجد منهم مَن كان يُصفّر ضدّ الهتافات المناديّة بالدّولة الإسلاميّة! إلى أنْ تقدّموا فكانوا عند مقدّمة الحراك! فلا تكد ترى في الإعلام -لا سيما الغربي منه- إلاّ صورهم وراياتِهم وشعاراتِهم وهم يصرّحون رافعين المطالب بخلفية شعبية مِن ورائِهم، إيهامًا بأنّ صوتهم مِن صوت الشّعب! لا يطالبون بتوفير الشروط وتهيئة الظروف لانتخابات نزيهة؛ وإنّما الدّخول بالبلد إلى مرحلة انتقالية برسمهم وعلى طريقتهم، وإلاّ فما بال كلمات الدّكتور أحمد بن محمّد التي كان يرسلها كلّ جمعة عبر مكبّرات الصّوت، لم تحظَ بأيّ بثٍّ في قناةٍ من قنوات إعلامِهم؟!

وما شعارُ (ما كانش انتخابات مع العصابات) إلاّ جرعةٌ حاضرة للحفاظ على زخم الحَراك، حتّى تُتجاوز الانتخابات بمزيدٍ مِن مستوى الضّغط السّلبي المؤدّي إلى الاصطفاف والصّدام، ليأتي تبرير الاستعانة بالبرلمان الإفرنجي -وقد حَصل-، ثم الدّخول في المجهول وقلوبنا على أيدينا.

وما تحويل شعار "جيش شعب خاوة خاوة، وولاد فرنسا مع الخونة" -على سبيل المثال- الّذي كان حاضرًا بقوّة في الشّهور الأولى مِن الحَراك، إلى شعار (جيش شعب خاوة خاوة، القايد صالح مع الخونة)؛ إلاّ أكبر دليل على وقوعِ الاختراق في الحَراك والتّحريف لمَسارِه؛ حيث كلّنا يعلم عن ذلك التّجاوب الكبير الّذي كان بين الشّعب وقائد الأركان، الّذي وعد المتظاهرين بمرافَقة حَراكم ومحاسبة الفاسدين فوفّى بوعده..؛ فمَن يؤذيهم سبّ اولاد فرنسا ويُسعده شتم القايد صالح الّذي وقف الموقف الإيجابي مع شعبه ضدّ أذناب فرنسا إذن، إنْ لم يكونوا سوى أولئك المتربّصين؟!

وإنّه لا شيء -اليوم- أنجع لقطع الأيادي المتربّصة بالجزائر في الخارج وفضح عملائِها بالدّاخل مثل الانتخابات؛ فهي بوّابةُ الاستقرار الّتي تستعصي على المكائد اقتحامها، إذْ لا تجد الهوام نفسَها ويقوى وجودها فيشتدّ إضرارُها، إلاّ في بيتٍ مضطربٍ غير مرتَّب المتاع!

سابعا/ غلقُ الباب في وجه التدخّل الأجنبي في شؤوننا الدّاخلية:

الحقيقةُ الّتي لا ينبغي أنْ يتهاون معها جزائريٌّ في قلبه ذرّةٌ مِن الغيرة على بلده، هي تلك الأصوات المسمومة المُخترقة للشّأن الدّاخلي الّتي لاتزال في تصاعُد، ممّا قد يرفع نسبة تعرّض الجزائر إلى خطرٍ حقيقيٍّ يظنّه المغفّلون مجرّد تخويف مبنيٍّ على استيراتيجيّة صدمةٍ رسمَها النّظام لتمديدِ بقائِه..، حتّى زَعَم بعضهم أنّ تدخّل البرلمان الأوروبي الأخير وقبله جهات فرنسية رسميّة في الشّأن الجزائري، ما هو إلاّ حيلةٌ مصطَنعة تمّ حَبْكها مِن الطّرفين، لزرعِ الحميّةِ والتحدّي العاطفي في قلوب الجزائريين، فيسارعون إلى الانتخابات!

ألا فاحذروا! لقد وقع ما كان مُتوهَّمًا واسْتبعده الكثير، معتبرين إيّاه قبل وقوعه مُناورةً مِن السّلطة؛ قبل أنْ يعقد برلمان الاتّحاد الأوروبي جلسته المشؤومة الّتي ناقش فيها أعضاءه وضع الجزائر الدّاخلي بطلبٍ فرنسيّ؛ فركّزت أغلب مداخلاتهم على اضطهاد الأقليّات النصرانية (المرتدّة) في الجزائر! وغلق الكنائس! والتّضييق على رفع الرّاية الأمازيغية! وأعقل القوم هو ذاك الذي تحدّث بأنانيّته في ضرورة دفع الفوضى عن الجزائر، لأنّ ذلك -كما قال بما معناه- سيعود بالضّرر على أوروبا عندما يتوافد إليها آلاف المهاجرين الجدد فرارًا من بلادهم!

ما كان لهؤلاء أنْ يتدخّلوا في شؤوننا بعقد جلسةٍ اختتموها بتوصياتٍ عُنيت بالجزائر، لولا كلاب الدّاخل الّذين تصايحوا عند عتبة أسيادهم -باعتراف بعضهم- يستسقون الحريّة المسمومة! وهم الّذين قد صرّحوا بمراسلاتهم مع البرلمان الأوربي وكشفوا عنها، فأبطلوا بأنفسهم تلك المزاعم الّتي اتَّهمت السّلطة بالمناورة.

والله ما تسارع القوم إلى أسيادهم بدثار الدّفاع عن الحريّة -وهم العبيد رغم أنوفهم- إلاّ لأنّ ضرع مزاياهم قد جفّ، وقنوات عمالتهم قد انسدّت؛ فعُلمت بهذا ضرورة المُضيّ إلى انتخابات لا تقبل التّأجيل، نقطع بها أسباب التدخّل وندوس على تلك التّوصيات؛ وإلاّ فإنّ الضّباع قد تحرّشت بفريستها، وتحرّش الوحوش لا يعقبه إلاّ ما هو أشدّ منه!

فإيّاي وإيّاكم مِن أقوال المستخفّين بإعلانِ البرلمان الأوروبي، فهم بين شريكٍ في التّآمر، أو مسيءٍ لتقدير حجم الخطورة، أو غافلٍ قد حُجب عقله عن الإدراك..؛ ومصيبتنا أنّنا نرى شرارة النّار بعيوننا، ثم لا نتصور التهابها إلا عند بيوت الجيران!

ثامنا/ استكمال مهمّة ملاحقة العِصابة واستكمال عمليّة محاسبتها:

فإنّ مطلب استئصال رؤوس العصابة ومحاسبتها، كان مِن مطالبنا الأساسيّة في الأشهر الأولى مِن الحراك؛ الّذي ما لبثنا أنْ بدأنا في حَصْدِ ثماره باكرًا؛ فتوالت الأخبار الإعلاميّة العاجلة الّتي كانت ولازالت تزفّ إلينا البشائر بالإعلان عن اعتقالات طالت أسماء عسكريّةٍ وسياسيّةٍ وماليّةٍ شهيرة؛ بل محاكمتها وإدانتها بعد ذلك، لم يتوقّعها أحدٌ منّا ولم نحلم بوقوعها في الماضي!

لم يَستبشر بتلك الأخبار ويُقدّر شأنها، إلاّ ملايين ضحايا تلك العصابة وأصحاب القضايا الصّادقة، أمّا الشّرذمة المَقيتة البائسة الّتي ما فتِئت تعمل على التّشكيك في وقوع الاعتقالات، أو التّقليل مِن شأنها، أو الطّعن في إجراءاتها، أو الانتقاد لظروفها؛ وكذلك موقفها مِن المحاكمات؛ فما كان منها ذلك إلاّ لمآرب خبيثة مدارها على ثلاثة أسباب: التّباكي على انقطاع الخيرات الّتي كانت تصلها مِن أولياء نعمتها، التّشويش على العدالة وتعطيلها عن مواصلة تحقيقات قد تُورِّط أسماءها، تقليبُ الأمور وغرس أفكارٍ سلبيّة في أذهان النّاس مفادها أنّ الاعتقالات والمحاكمات مجرّد حيلة يُريد بها النّظام امتصاص الحرارة وإضعاف العزائم.

وإنّ الإبقاء على الوضعيّة الحالية بحجّة عدم توفّر الظّروف لإجراء انتخاباتٍ تستأصلُ النّظام القديم، ما هو إلاّ تعطيلٌ ضعيف المُبرّرات يمدّ العصابةَ مزيدًا مِن الأوكسيجين؛ وحسبُك أنْ تُلقيَ نظرةً على ما صدَر عن بعض أقرانِهم وأذنابِهم مِن السّياسيين والإعلاميين المتظاهرين اليوم بمساندة الحَراك، مِن كتاباتٍ وكلماتٍ مفضوحةٍ كانت تُمجّد رؤوس العصابة والجنرالات الدّمويين في الماضي القريب، فضلاً عن امتيازاتٍ سياسيّةٍ وماليّةٍ وإعلاميّة مُنحت مِن قبلِ أولئك لهؤلاء –كما أشرت-، ثمّ تجدهم اليوم مِن أشدّ النّاس حماسًا في معارضة الانتخابات وأكثرِهم تشويشا على المحاكمات!

لم تكن هذه الاعتقالات -في الحقيقة- إلاّ بدايةَ التّطهير لعصابةٍ لاتزال جذورها متغلغلةً في الإدارات بشتّى قبّعاتها، ومِن هنا يتّضح أكثر موقفُ تلك الشّرذمة مِن الانتخابات الّتي تعلم جيّدًا آثار ما بعدها على فسادهم؛ فكان لا بدّ على كلّ عاقلٍ التّعجيل بالانتقال إلى عهد منجلٍ جديد يكون أكثر حَصْدًا وأشدّ قَطْعًا!

تاسعًا/ رفع الضّغط وكسر الحصار عن المؤسّسة العسكريّة:

أعلم أنّ ما سأقوله لا يُعجب الكثير، ولستُ بالّذي يبالي بالنّاس وآرائهم إذا قلتُ شيئا أظنّ فيه حقًّا، أو عالجتُ أمرًا أروم به صوابًا؛ فإنّما يُسأل العبد بين يدي الله -سبحانه- عن أعمالِه لا عن أعمال غيرِه؛ و[[إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا]].

لا أرى التّركيز على الشّعارات المناهضة لمؤسّسة الجيش والشّاتمة لقائد الأركان -خاصّة- بذلك الشّكل اللاّفت، إلاّ لأمرٍ قد دُبّرَ بليل فظُلّل به الكثير، وإذا بحثتَ عن الباعث على هذه المواجهة المُبالَغِ فيها وغير المفهومة، بعد قَبولٍ كانت تحظى به المؤسّسة وقائدها في المرحلة الأولى مِن الحراك؛ وجدتَ مَن يبرّر لك ذلك بانقلاب القايد صالح والتفاف المؤسّسة العسكرية على مطالب الحراك! كيف ذلك؟ سيقولون: قد أدارت المؤسّسة العسكرية ظهرها لمطلب تنحيّة الباءات الباقية، واستبدالها بهيئةٍ انتقالية تُنظم الانتخابات! -ولقد علّقتُ على المطلبين في فقرات سابقة ضمن هذا المقال-؛ والحقيقة أنّ الشّعارات المناهضة للمؤسّسة العسكرية وعلى رأسها القايد صالح، قد رُفعت على بعض اللاّفتات خلال الجمع الأولى في عزّ القبول الّذي كان يحظى به قائد الأركان لدى أمّة الحراك! قد شهدتُ هذا بأمّ عيني! مما يعكس النيّة المبيَّتة منذ اليوم الأوّل لضرب المؤسّسة العسكرية في مَقتل -وهي العمود الفقري للدّولة-، ويكشف غفلةَ الكثيرين الذين يسيرون على خطّها.

فإذا تحقّقنا من تبييت تلك النيّة في استهداف قيادة الأركان أوّلا؛ ثمّ اعتبرنا وقوع ذلك أيّام التّناغم بين أمّة الحراك ومؤسّسة الجيش ثانيا؛ ثمّ اكتشفنا عمق النيّة ومصدر الاستهداف المتمثّل في حثالة العلمانيين واللاّئكيين الأوفياء لوحوش العسكر -الّذين تواطؤوا معهم ومخابراتهم ضدّ الشّعب تاريخيّا إلى عهد قريب- ثالثا؛ ثمّ تطوّرنا إلى تركيز الحراك على ضرب قائد الأركان بشعاراته رابعا؛ ثم انتهينا إلى اتّخاذ شخصية (القايد صالح) المادّة الدّسمة في الإعلام الجزائري بالخارج والفرنسي عموما، فضلا عن منصّات شبكة التّواصل الاجتماعي عبر بعض اللاّيفات ونحوها...

عندها نعلم؛ أنّ الأمر قد تمّ التخطيط له بإحكام، حتّى أُوهم الحَراك بعدم تحقّق أيّ شيء مِن المطالب! فاشتدّت معارضة المتظاهرين لانتخابات قد صُوّرت لهم بأنّها وسيلة لتجديد النظام الّذي خرجنا مِن أجل مطاردتِه، وبالتّالي حتمية التّركيز على مواجهة الحامي لذلك النّظام: القايد صالح! ثمّ إذا تدبّرنا الأمور وتحرّينا في مجريات الأحداث في هدوء، بعيدًا عن حماس وضجيجٍ يحبس اللّبيب عن التّفكير؛ سنكتشف أنّ العقل المدبّر الّذي بسببه انحرف الحراك عن مطالبِه الحقيقيّة وفسدت بوصلته فاشتبه في عينِه الفَرس والخنزير؛ هم حرّاس الوصاية الفرنسيّة والمتعوّدون على الابتزاز السياسي الّذين اتّحدوا مع أعداء الخارج وخونة الدّاخل، على توجيه ضرباتٍ للمؤسّسة العسكرية بترسانةٍ سياسيّةٍ وإعلاميّةٍ ضخمةٍ استهدفت تضليل الرّأي العام وتأليبه على جيشه؛ مِن خلال اتخاذ المؤسسة العسكرية وعلى رأسها قايد الأركان هدفا يأخذ حصة الأسد مِن أحاديثهم على الأستوديوهات! لإدراكِهم بكلّ -بساطة- أنّ نهايتهم ومرضعتهم ستكون بانتخابات تلقي بهم في مزبلة تاريخ الخزي والعار.

وإلاّ فإنّ الحقيقة في الهجوم المستمرّ على القايد صالح ومن حوله حاليا؛ لا علاقة لها بالدّفاع عن الحقوق ولا بحماية المتظاهرين؛ وإنّما السرّ في أنّ المؤسّسة العسكرية قد تغيرت وقرّرت قطع الوصاية الفرنسيّة على الجيش والرّجوع به إلى الحاضنة النوفمبرية في أصالتها ووطنيّتها؛ بشهادة أشرافها الذين قبعوا في سجون كابرانات فرنسا والتوفيق دهرًا، فضلاً عن تصفية وتعذيب بعضهم وإحالة آخرين إلى التقاعد في عزّ العَطاء، وما كان هذا ليكون لولا سعي رجال الجيش الصّادقين في تصفية المؤسّسة العسكرية مِن الخَونة وعبيد فرنسا، ولا زلنا نسمع ونقرأ البشائر عن التحوّلات الميدانية في قلب الجيش.

ثمّ نجد الرّجل الذي يعدّه الكثير مِن الإمّعة اليوم رأسًا للعصابة -أعني قائد الأركان القايد صالح-، هو نفسه من شهّر بكلمة (العصابة) من خلال خطاباته الأولى التي حملت البشرى وفرح بها الشّعب -وأهل الحراك خاصّة-! أين أعلن عن عزم الجيش على تخليص الشّعب الجزائري من العصابة وتطهير البلد منها! قبل أن تنقلب الأمور ويتعامل الكثير مع البشرى بكفران النعمة وعدم العِرفان –للأسف الشّديد-.

وإنّني لأخشى أن نكون ممن بدل نعمة الله فكفروا بها لما جاءهم ما عرفوا، فتُرفع عنا على أيدينا؛ وإلاّ فلنقارن بين عسكر الأمس وجيش اليوم في تعامله مع المظاهرات التي لم تُرَق قطرة دم خلالها، رغم الاستفزازات والشّتائم التي كانت تطال رجال الأمن مِن طرف البعض، لنُدرك الفرق بأمّ أعيننا؛ إنّه الفرقُ الظّاهر لكلّ منصفٍ، بين فرقِ موتٍ ذبّحت الرّجال واستحيت النّساء وسَجنت الأبرياء، مِن خلفها هجينٌ ذميم مِن العلمانيين كان حليفًا لها؛ وبين جيشٍ يسهرُ على أمنِ شعبه ويحميه في مظاهراتِه ويمدّ له العون لتحقيق مطالبِه –إلاّ ما كان مِن تجاوزاتٍ فرديّة غير منظّمةٍ لا تكاد تُذكر-.

عاشرًا/ استنفادُ الحَراكِ لأسباب استمرارِه:

وأقصد بالحَراك هنا، الحَراك الأصيل الّذي كان موحّدًا في أسبابِه وشعاراتِه ورايتِه؛ وفي أهدافِه ومطالبِه الّتي قد تحقق أساسها في المرحلة الطبيعية المناسبة لها -مرحلة الشّارع-؛ المتمثّلة في: إبطال العهدة الخامسة، إيقاف تمديد الرابعة، محاسبة رؤوس العصابة، واستبعاد بدوي وحكومته مِن الإشراف على الانتخابات.

أمّا المطالب الأخرى، فلا يُمكن تصوّر تحقيقها عبر الشّارع؛ بل مرحلتها الطبيعية المناسبة لها تكون بعد انتخاباتٍ رئاسيّة يُتوّج مِن خلالها رئيس جمهوريةٍ منتخبٍ يُشرف على تلبيّتها تحت متابعة الجميع؛ فليس كلّ المطالب يتم طرحها عبر الشارع! وإنّما الأمر بمثابة البيتِ الهشّ يمرّ المشروع على أرضه بمرحلتين: إزالةُ ما تقادم بالهدم، ثمّ إنشاءُ ما تجدّد بالبناء، واستمرارُ الحَراك على المسار التّصاعديّ في منحناه، قد أعقبته بعد وصولِه إلى الذّروة حالةٌ تنازليّةٌ سلبيّة تقترب مِن الحالة الصّفرية كلّ يوم..؛ وهنا مكمنُ الخطر ومبدأ الصّدام -لا قدّر الله-!

لقد استنفدَ الحَراك جميع مبرراته للاعتراض على الانتخابات مرّة أخرى، لمّا ضيّع فرصة الدّفع بمرشّح شعبي يشارك في انتخاباتٍ قد استقلّت بتنظيمها (السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات)، الّتي رفض المشاركة ضمن مكوناتها ومكونات الهيئة التمهيدية لها (لجنة الوساطة والحوار)؛ بل خُوّن كل من اقترب للمشاركة فيهما، كما خُوّن بعض المترشِّحين للانتخابات الرئاسية رغم شهرة عدالتهم وأمانتهم! لتأتي النائحة المستأجرة تتباكى على تمخّض الخمسة أسماء المترشّحة عن بقيّة المترشّحين، بعدما عَدم أمثال الدّكتور الفاضل فارس مسدور حاضنةً شعبية كانت القوّة المفترضة لتملأ له استماراته!

ولهذا الاعتبار، قدّرتُ فكنتُ لتنظيم الانتخابات في التاريخ المسطر لها من المؤيدين، ما دام بديل القوم -اليوم- هو الدّخول في مرحلة انتقالية لا يقيّدها دستور، مما يفتح باب المغامرة بمستقبل الجزائر؛ إلاّ أن يحدث تأجيلٌ يُعطي فرصة لاستدراك خطأ تجاوز الانتخابات التي هي الآلية الحقيقية والقانونية لتطبيق المادتين 7 و8، فيستعد الجميع للمشاركة بمرشح شعبي ترتضيه الغالبيّة.

أخوكم محمّد بن حسين حدّاد الجزائري
الأربعاء 14 ربيع الثّاني 1441هـ،
الموافق 2019.12.11م