لقد آلمتي موقفُ بعض خطباء المساجد مِن خروجِ النّاس
في المظاهرات، وطريقتُهم في تناولِ موضوعِها والتّعامل معها، ولو انضمّوا إلى النّاس
في حِراكِهم متعاطفين ومُوجِّهين لكسبوا أجرًا وأكسبوا نصرًا، أو سكتوا لكان في سكوتِهم
خيرًا لأنفسهم وإخوانِهم، لكنّهم تكلّموا ففتنوا، وأعلنوا فلبّسوا، وبيّنوا فدلّسوا؛
بل قالوا القول الخطأ، في المكان الخطأ، في الوقت الخطأ؛ وفي موضوع المظاهرات السّلمية
تفصيلٌ ليس هذا موضع بسطه، وإنّما أحببت اختصاره في كلمة لاقتضاء المقام والزّمان...
فإنّ إطلاقَ القولِ بعدم جواز المظاهرات والمسيرات الاحتجاجيّة السّلمية ضدّ الأنظمة
والحكّام، كأنّه قولٌ واحد ليس له مخالف؛ هو قولٌ تُبطلُه القواعد العلميّة، وتُكذّبُه
الشّواهد التّاريخيّة، وتُخالفه الوقائع العمليّة، وترفضه الحجج العقليّة، وتأباه القيم
الأخلاقيّة؛ فهو قول باطلٌ مِن النّاحية الشّرعية، لأنّ الخلافَ الوارد في المسألة
خلافٌ معتبرٌ يدخل في دائرة الاجتهاد، ذلك أنّها مندرجةٌ تحت باب العادات فلا تفتقر
إلى نصوصٍ تدلّ عليها، ومتعلّقةٌ بموضوع الوسائل فلا تُمنع إلاّ بنصّ يُحرّمها، فضلا
عن دخولِها ضمن المصالح المرسلة الّتي دلّت عمومات النّصوص ومقاصد الشّريعة على مشروعيّتها؛
وهو قول مُكذَّبٌ بالشّواهد التّاريخية، الّتي مِن أكبرِها خروج الآلاف المؤلّفة يوم الجمل لغير قتال ابتداءً، على
رأسِهم خيرة الصّحابة وفي محضر الرّعيل الأوّل منهم -رضي الله عن الجميع-، مُعترضين
على خليفة المسلمين علي بن أبي طالب على عدم الاقتصاص من قتلة عثمان -رضي الله عن عليّ
وعثمان-، ومطالبين إيّاه بالمبادرة إلى ذلك، ثمّ لم يُعلم في تاريخ الحدث منكِرٌ لأصل
هذا التّظاهر أو مشنّعٌ عليه؛ وهو قولٌ مُخالَفٌ بالوقائع العمليّة، إذْ يزعم من أطلق
المنع أنْ لا شيء يُحصد مِن المظاهرات إلاّ إحداثٌ للفوضى واختلالٌ للأمن وعُقمٌ في
النّتيجة، والواقع أنّ ثمّة عددٌ لا يُحصى منها عبر التّاريخ، أَسقَطَت حكومات فساد
وأَهبطَت مشاريع دمار وجَمّدَت قرارات خراب، مِن غير سفكٍ لدماء أو تكسيرٍ لممتلكات
أو إساءةٍ لأخلاق، إلاّ ما قلّ منها قلّةً لم تؤثّر في مبدأ غلبة المصلحة على المفسدة؛
وهو قولٌ مرفوضٌ بالحجج العقليّة، فلا يُقبل
مِن جهة النّظر أنْ يُحكم بفسادِ وسيلةٍ سليمة في مقصدِها، بناءً على مخاوفَ ومحاذير
وهميّة لا تُؤيّدها القرائن، إلاّ مجرّد اجتنابٍ لتدافعٍ كلّ المصلحة في ضرورتِه؛ وهو
قولٌ مَأبيٌّ بالقيم الأخلاقيّة، لأنّ إطلاق القول الواحد في المسائل الخلافيّة بما
يوهِم النّاس أنّ ثمّة إجماعٌ فيها وهو غير ثابت ولا متحقّق، هذا مِن الكذب، ولأنّ
اتّخاذ مثل هذه المسائل فرقانًا يتميّز به المتّبع للسنّة مِن غيرِه، هذا مِن التّلبيس،
ولأنّ مواجهة الغلابى والمقهورين بمنعِهم مِن الخروج سلميًّا للمطالبة بحقوقِهم المهضومة
بعدما ضاقت عليم سبلها؛ بل وإلزامِهم بالسّكوتِ على الظّالمين والصّبرِ على جورِهم
وعدم التّفكير في إعلان الإنكار عليهم، هذا مِن الجُبن.
أخوكم محمّد بن حسين
حدّاد الجزائري
الخميس 30 جمادى الآخرة 1440هـ،
الموافق
2019.03.07م